ذهب الظل

أولا :

كانت جلسات تحديد أسعار الذهب اليومية تعقد، تحت إشراف مصرف روتشيلد، في غرفة مكسوة بالألواح الخشبية علقت فيها تصاوير النبلاء الراحلين. تعتبر السرية من الخصائص التي تميز عالم الذهب. ويحرص سدنة هذا العالم على التخفي حرصهم على إرثهم من الفضيات الثمينة. لنأخذ مثلا عملية تحديد سعر الذهب المبهمة . يرفع صباح كل يوم من أيام العمل الأسبوعية  ، عند الساعة العاشرة والنصف أحد التجار في غرفة تداول المعادن الثمينة لدى أحد مصارف لندن التي تتعامل بالذهب سماعة الهاتف، ويتصل بخط هاتفي خاص يربطه بأربعة مصارف أخرى تشكل المصارف الخمسة مجموعة نافذة مستقلة تعمل وفقا لسياساتها الخاصة تعرف باسم مجموعة تحديد سعر الذهب بلندن London Gold Fixing وأعضاؤها هم سكوشيا موكاتا ScotiaMocatta الذراع المختصة بتداول الذهب لدى مصرف نوفا سكوشيا Nova Scotia وباركليز كابيتال Barclays Capital و دويتشه بانك Deutsche Bank المصرف الألماني المتنفذ، وسوسييتيه جنرال Société Générale وإتش إس بي سي HSBC، وهو المصرف متعدد الجنسيات الذي يتخذ من لندن مقرا له، والذي تعود نشأته إلى مؤسسة هونغ كونغ وشنغهاي المصرفية  ، سابقا. هذه المصارف تحدد سعر الذهب. ووفق جيرمي تشارلز Jeremy Charles ، وهو من سكان لندن الأصليين، ويبلغ السابعة والخمسين من العمر حسن الهندام تغلب عليه سيماء الخشونة، وقد بدأ حياته المهنية ساقيا للشاي في غرف تداول الذهب لدى مصرف روتشيلد الأسطوري، وانتهى به المطاف مديرا لعمليات تداول الذهب العالمية لدى مصرف إتش إس HSBC: «همة الكثير من أسواق الذهب في العالم. لكن في العاشرة والنصف صباحا، توشك الأمور على التوقف فيما تتجه أنظار العالم بأجمعه إلى لندن».

 

ثانياً :

تبدأ عملية تحديد السعر بتعيين المصرف الذي يرأس الجلسة سعرا ما. يمثل هذا الرقم الافتتاحي غالبا سعرا وسطا بين آخر أسعار الشراء وآخر أسعار البيع في لندن يطلب رئيس الجلسة تحديد الراغبين في الشراء والبيع عند السعر المقترح ويرسل الأعضاء الخمسة هذا السعر إلى زملائهم في غرف التداول. لنفرض أن عملية تحديد السعر اليوم بدأت عند سعر قدره كذا، وأن تجارنا اتصلوا بجميع عملائنا، وأن عملاءنا اتصلوا بعملائهم وهلم جراء إلى أن يصل التجار إلى جميع الراغبين باعتماد السعر المحدد للذهب». وإذا تعذرت مطابقة أعداد المشترين والبائعين عند السعر المقترح، يعدل الرقم بالزيادة أو النقصان إلى أن تبلغ النقطة التي تتساوى عندها دوافع المشترين والبائعين للتعامل في السوق بكميات متطابقة من الذهب والاتفاق على السعر يقول تشارلز: «تتم كل تعيينات الأسعار باستخدام السبائك. فقد أقول: سأشتري ثمانين سبيكة. ويرغب شخص آخر أيضا في ثمانين سبيكة، فإذا اتفق على السعر، عندئذ يتحدد السعر». وعندما تصل المصارف إلى تحديد نقطة التوازن المذكورة - التي تتطابق عندها أعداد المشترين والبائعين - يُعلن السعر المحدد» حول العالم. وتُعاد الكرة في فترة ما بعد الظهيرة. دأبت بعض الشركات المتعاملة في الذهب في لندن على القيام بهذه العملية طوال قرون. وتعود أصول سكوشيا موكاتا إلى العام 1671، عندما بدأ موسى موكاتا بتداول السبائك في لندن. وعندما استهل جيرمي تشارلز عمله في غرفة إعداد الشاي لدى مصرف روتشيلد في العام 1975، كان المصرف لايزال يمارس نشاطه من مبناه الحجري القديم الواقع في شارع وان كينج ویلیام ستريت   كانت جلسات تحديد سعر الذهب اليومية تعقد في غرفة مكسوة بالألواح الخشبية، علقت فيها تصاوير النبلاء الراحلين في تلك الأيام كانت نسخة مصغرة من علم بريطانيا تثبت على محور مائل على أحد جانبيه فوق طاولة المكتب أمام ممثل كل مصرف من المصارف الأعضاء. وفي أثناء عملية تحديد السعر كان المصرفيون يرفعون أعلامهم ويهتفون «علم !   إذا ما أرادوا لفت انتباه رئيس الجلسة إلى رغبتهم في إجراء تعديل في مواقفهم .( مراكزهم). ولم يكن السعر يتحدد إلا إذا وضعت كل الأعلام على جانبها مجددا، مما يعني حصول التوافق بين البائعين والمشترين. واليوم انتقل معظم هذه المراسم أسفل النهر حيث تقوم الأبراج الحديثة في الضاحية المالية كاناري وارف Canary Wharf ولايزالون حتى اليوم يهتفون بكلمة «علم!» عبر الهاتف للإشارة إلى مراكزهم الجديدة، وكذلك لم يطرأ تغيير على معيار السبائك التي تتداول اليوم. إذ لا يتداول صانعو السوق   إلا سبائك التسليم الصحيح.

 

ثالثاً : 

بلندن London Good Delivery. فعندما ترغب المصارف المركزية وأثرياء صناديق التحوط في الحصول على الذهب، فإن المقصود هذا النوع من الذهب. قطعاء. ولا يسمح لغير الأطراف المعنية بحضور عملية تحديد السعر. وعندما تحدثت إلى تشارلز، أجرينا مقابلتنا في غرفة اجتماعات بأحد الطوابق العليا في المصرف، وكنا تشرف على نهر التايمز الذي يتدفق مرورا بغرينتش، وبينما راح يطلعني على المكان. سألت إن كان في إمكاننا أن نعرج على غرفة تداول المعادن الثمينة، لكي أتعرف عليها من كتب فكان جوابه: «أوه، هذا . ممنوع لمة الكثير عموما من خفايا ،الذهب ومن ذلك صعوبة تعامل عامة الناس به. وإن وصف الذهب بأنه نقد يحقق قبولا واسعا Universal Money مدعاة إلى السخرية فمن الذي سيقبل به؟ لا بد أن الذي سيقبل التعامل به يحمل بيده معدات الفحص فليس من السهل بيع الذهب ولهذا السبب لا يقبل المتداولون في سوق لندن بالتعامل المباشر من دون وسيط ضامن بل من خلال المصارف التي تتاجر بسبائك الذهب. إن تحويل الذهب إلى نقد حاضر أمر سهل إذا كان من يقوم بعملية التحويل يعمل لدى إتش إس بي سي HSBC، وإلا فالتحويل ليس سهلا. لقد وقفت عصابة إجرامية لندنية على هذه الحقيقة المرة قبل ثلاثين عاما، ذلك أن أعضاءها وجدوا بحوزتهم، من دون سابق إنذار كمية كبيرة من السبائك، وبدأت رحلة العذاب التي لم تنته فصولها حتى اليوم. *** كان يفترض أن تتم العملية بسهولة بالغة. لقد انتهى إلى علم «ماد ميكي مكافوي Mad Mickey McAvoy وهو شاب لندني تردى في مهاوي الجريمة وأحد المخضرمين في عمليات السطو المسلح ويدعى برایان روبنسون Brian Robinson، ويشتهر به العقيد»، أن مبلغ ثلاثة ملايين جنيه إسترليني سيشحن عبر مخازن شركة الأمن برينكز - مات المحدودة Brinks-Mat Ltd. الواقعة في مطار هيثرو. وقد أذاعت الشركة الأنباء عن بحثها عن طرف موثوق به لمساعدتها على عملية الشحن، فشكلت فريقا لهذا الغرض، وفي الساعة السادسة صباحا يوم 26 نوفمبر 1983 انطلق الفريق بالسيارة خارج المدينة التي لايزال يلفها الظلام باتجاه المطار.

 

رابعاً :

كان يفترض أن القرار سهل مضمون لأن اللصوص المختصين بأعمال السلب يتمتعون بأفضلية لا تتوافر عموما للصوص العاديين - أي امتلاك مفتاح المخازن وقد حصلوا على المفتاح من أخي زوجة روبنسون وكان يعمل هناك. لقد أطلعهم أيضا على المخطط العام للمكان، وكشف لهم عن الإجراءات الأمنية التي كانت بانتظارهم في الداخل. لقد وضعوا خطة واضحة لتجاوز تلك الإجراءات الأمنية: فعطلوا أجهزة الإنذار وألقوا القبض على الحراس الذين كانت بحوزتهم شيفرة الخزنة، وسكبوا عليهم البنزين وهددوهم بإضرام النار فيهم إن رفضوا فتح قفل الباب الفولاذي الثقيل. وهكذا فتح الحراس القفل واندفعت العصابة إلى الداخل الأخذ المال، بيد أنها وجدت بدلا من ذلك كومة من 6800 سبيكة ذهب. عندئذ لم بعد الأمر بغاية السهولة. كان عليهم أولا إيجاد مركبة كبيرة لحمل الذهب ونقله، وقد أجروا اتصالا هاتفيا وتدبروا الحصول على شاحنة واستغرقت العملية، التي كان يفترض أن تتم في غضون دقائق ساعتين من الزمن ثم ظهرت مسألة أخرى ماذا سيصنعون بهذا السلب؟ فالذهب ليس مالا نقديا. ولو أنهم وجدوا خبيئة الأوراق النقدية التي كانوا يتوقعون لحشوها في حقائب رياضية وقفلوا عائدين إلى المنزل وقسموها بينهم في قبو المنزل. لم يكن ذلك يتطلب أي مهارات خاصة، باستثناء مهارة عد النقود. أما تحويل الذهب إلى نقد فيحتاج جملة من المهارات المختلفة، لم تكن لدى اللصوص. لقد وجدوا أنفسهم أمام مشكلة تحويل معدن ثمين إلى سيولة نقدية. وتشير السيولة إلى وجود سوق جاهز لبيع ما يراد تحويله إلى نقد، تماما كالسوق الجاهز الذي يتداول فيه الذهب. ولم يكن سوق الذهب بذلك السوق الذي يسمح للمرء وأصحابه   بأن يطرحوا فيه ما بحوزتهم من الذهب  ، في طريق عودتهم من المخزن. وتوجه السلاب إلى حي بريان بيري Brian Perry، وهو معزل (جيتو)  لندني. ولدى دخول نوي Noye ألقيت رمانة يدوية إلى طابق شركة برينكز - مات.