الإنفاق الأمريكي وحرب فيتنام

أولا

أدى الإنفاق الأمريكي أيضا وخاصة إلى حرب فيتنام، إلى إغراق العالم بالدولار وكان من المؤشرات إلى هذه النزعة السائدة ارتفاع ودائع الدولار المملوكة للأجانب في مصارف الولايات المتحدة ومشتريات الأجانب من دين الحكومة الأمريكية بأكثر من الضعف بين العامين 1950 و 1960، أي من 8 إلى 20 مليار دولار، وقد سبق ذلك فرط الإنفاق الذي اقترن بحرب فيتنام كان إنفاق مواطني الدول الأخرى دون معدلات ادخارهم واشترى الأمريكيون السلع التي أنتجتها المصانع الجديدة في تلك الدول، وكانت هذه المصانع شيدت على الأغلب برأسمال أمريكي. لكن تلك الدول لم تشتر من الولايات المتحدة بالمقدار نفسه. وتصاعدت فوائض الدولار لدى المصارف المركزية للدول الأجنبية. وفي ضوء نظام معيار الذهب كان هذا سيعكس عملية توازن الحسابات . فالسبائك ستغادر الموانئ الأمريكية إلى وجهات أوروبية وآسيوية، وهذا ما حدث.



ثانياً :

يجثم في صلب نظام بريتون وودز ذلك الثعبان القديم: الذهب. وبينما تعتمد معظم المعاملات المالية على الدولار، فإن قابلية تحويله إلى ذهب كانت لاتزال تشكل غطاء للدولار. وفي السنوات الأولى التي أعقبت الحرب، ونظرا إلى حاجة الجميع إلى النقد، فقد كانت قابلية الدولار للتحويل إلى ذهب أمرا فنيا بحثاء ومن ثم تحول ذلك إلى ممارسة شائعة بسرعة بالغة. وفي غضون ثلاثة عشر عاما، أدت الآثار المشتركة لطفرة الثراء العالمي والحروب الخارجية والمؤسسة العسكرية الدولية وحالات العجز التجاري إلى استنزاف نصف احتياطي الذهب لدى الخزانة الأمريكية. إضافة إلى ذلك، تضاعف عدد الأجانب من حملة أوراق المديونية الصادرة عن الولايات المتحدة، ولو عمد الدائنون الأجانب جميعا إلى صرف دولاراتهم بالذهب في آن معاء لثلاثى مخزون الولايات المتحدة من الذهب جميعا، ولم يكن يحول دون إقدام الأجانب على صرف ما بحوزتهم من الأوراق النقدية الأمريكية إلا خشيتهم من إشعال شرارة نزيف الدولار وخسارة قيمة ما بحوزتهم منه. لكن العالم بدأ يستشعر الخطر.



ثالثاً :

 فعندما كانت ديون الولايات المتحدة 60 مليار دولار، وكان مخزونها من الذهب يقدر بالني عشر مليار دولار، ألمح أحد الاقتصاديين الفرنسيين إلى أن الطلب من الولايات المتحدة سداد ديونها ذهبا كان عديم المعنى، وذكر أن: «هذا أشبه بالطلب من الأصلح أن يمشط شعره، فهو لا شعر له أصلاء. وفي مطلع العام 1965 صرح الرئيس الفرنسي تشارل ديجول، وكان ساخطا على أمريكا، في مؤتمر صحافي في قصر الإيليزيه بأن الدولار فقد الحق في أن يكون عملة العالم، وأن على المجتمع الدولي العودة إلى المعيار الوحيد الفعال. وقال بنبرة حادة: الذهب» إنه المعيار الذي لا قومية له، وهو محل قبول عام على الدوام. (130 وبعد عامين عبر ديجول مجددا عن استيائه من الوضع القائم ، وأخرج فرنسا من نظام ما يعرف بتجمع (كارتل) الذهب اللندني London Gold Pool كانت غاية هذا الكارتل تثبيت الأسعار، وقد ضم في عضويته حكومات ثماني دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا وهولندا، وقد حافظ الكارتل على سعر الذهب الرسمي عند المستوى المعتمد في اتفاقية بريتون وودز 35 دولارا للأوقية. وللحيلولة دون قيام المضاربين برفع السعر، كان الكارتل مستعدا لطرح الذهب في السوق لتلبية الطلب، وكان دائما على استعداد للبيع بسعر 35 دولارا. 



رابعاً :

غير أن المضاربين، وقد راهنوا على استحالة ديمومة هذا الدعم اكتنزوا الكثير من الذهب وتوقعوا أن يتداعى هذا السعر 35 دولارا)، فيرتفع مع تراجع الثقة بالدولار، وبعد أن أخرج ديجول فرنسا وذهبها من الكارتل بعد مدة وجيزة اضطرت الولايات المتحدة إلى تحويل مليار دولار من الذهب تقريبا إلى لندن للبيع بسعر 35 دولارا إلى المشترين الذين كانوا على الرغم من ذلك. مستعدين لبذل فمن أعلى، وهكذا تحطم السعر الرسمي.



خامساً :

 ورأى المضاربون في سعر قدره 35 دولارا صفقة رابحة. ومن هذا المنظور كان الذهب يباع بخصم، لكن البيع دون سعر السوق كان سيتوقف حتما. معدل وجاهد أعضاء الكارتل في مواجهة الأمر المحتوم. وفي 11 مارس 1968 بعد أيام من شحن كمية كبيرة من السبائك من الولايات المتحدة إلى بريطانيا، تعهد الكارتل بالمحافظة على السعر عند مستوى 35 دولارا. وبعد ثلاثة أيام، في سوق بلغ فيه حجم التداول خمسة أطنان في اليوم تناهش المشترون في لندن مائة طن من الذهب. وفي غضون أسبوع انهار الكارتل .. وبعد مرور عام بلغ سعر الذهب في السوق المفتوحة 43 دولارا للأوقية، أي بعلاوة قدرها 20 في المائة على السعر الرسمي. كان لا بد من ردة فعل ما. عندما تبوأ ريتشارد نيكسون منصبه في العام 1970، كان النقد يتدفق من الدولة لتمويل حرب فيتنام ومستوردات البضائع الأجنبية التي كان الأمريكيون يفضلونها على البضائع المحلية مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية اليابانية والألمانية. ومع ذلك ظلت المشكلة الأساسية الشاغلة لأذهان الناخب الأمريكي تتمثل في التضخم الذي كان يدفع الأسعار إلى الارتفاع كانت تلك هيا المشكلة التي وعد نيكسون بإيجاد حل لها. وفي الوقت نفسه كان يتعين على الإدارة الأمريكية أن تتصدى لمشكلة أخرى ولعلها أكثر فداحة ما العمل بشأن تلال الأوراق النقدية الأمريكية المتراكمة في المصارف المركزية حول العالم وكل منها يمثل صك مديونية على الذهب الأمريكي؟ إذا كانت الأسعار المتصاعدة التي أحدثها التضخم قد أطلقت معظم الأمريكيين، فإن ما كان يقلق أوساط الصيارفة هو نمو إبداعات الدولار خارج الولايات المتحدة بالنسبة إلى الحكومات الأجنبية، كان ذلك موضوع الساعة الأكثر إلحاحا كانت تلك الحكومات تدرك استحالة طلب صرف دولاراتها بالذهب بأثر فوري، لأن الطلب على الذهب سيؤدي إلى إفراغ فورت نوكس. وأن احتمال الوقوع في مثل هذا المأزق الذي سيقوض سمعة الولايات المتحدة ربما سيدفع الولايات المتحدة إلى إلغاء قابلية صرف الدولار ذهباء (نافذة الذهب والإحجام عن التحويل إضافة إلى ذلك، كان الدولار مستقرا في صلب النظام المالي العالمي، كما أن إزاحة الدولار ستخلق فوضى عارمة في كل أنحاء العالم. ولهذه الأسباب امتنعت الحكومات الأجنبية عن ذلك. وتصاعدت حدة التوتر وبصورة حتمية، شعر كل من امتلك كميات كبيرة من الدولار بالقلق من حالة الدول الأخرى التي لديها كميات كبيرة من الدولار. ماذا لو خرق أحدهم الاتفاق الضمني الذي يحول دون الاندفاع في هذا الاتجاه ؟ وماذا لو أبرمت دولة ما اتفاقا سريا مع واشنطن، وصرفت دولاراتها خلسة في حين احتفظ الآخرون بما يمتلكون من دولارات؟ كان حل المعضلة الأمريكية يبدو سهلا أن تقدم الولايات المتحدة على فعل ما بخشاء حاملو الدولار الأجانب، أي إغلاق نافذة الذهب (إمكانية صرف الدولار ذهبا). وهذا يعني تعويم الدولار بحيث تتحدد قيمته مقابل العملات الأخرى وفقا التقدير السوق. وقد أيد بعض مستشاري نيكسون هذا التوجه لكن إغلاق نافذة الذهب وتعويم الدولار كان يثير جملة من المشاكل أيضا، فقد تهبط قيمة الدولار يعني أن المنتجات المستوردة التي كان الأمريكيون يتوقون للحصول عليها ستغدو مكلفة جدا، وسيبدو الأمر كأن الإدارة الأمريكية لم تعد تلقي بالا لمحاربة وهذا التضخم في مجمل القول سيبدو نيكسون ناكنا بتعهداته. وفي عموم البلاد، وبالنسبة إلى العالم، ستوجه أصابع اللوم إلى الرئيس.