منجم لينغلونغ - الجزء الثالث

 

 أولاً :

وقد أخبرني جونغ عبر المترجم فينغ تاو أن ذلك الرجل: «ساعد على سرقة الذهب من اليابانيين. كان قمة العديد مثله، وكان هذا عملهم، لقد أرسلهم الحزب. كان في صفوف الحزب الكثير من المزارعين، لذلك كان يبدو على هؤلاء الرجال سيماء المزارعين وقد استأجرهم اليابانيون. بيد أنهم كانوا أعضاء ميليشيات في واقع الأمر. كان لديهم مصهر ذهب في موضع سري داخل لينغلونغ حيث كان الذهب يصب في القوالب ويبرد بالماء. لقد شكلوه في سبائك يمكن خياطتها إلى الملابس وتهريبها خارجا». لا بد أن جونغ كان سعيدا وهو يرى لينغلونغ بعيون المحب لوطنه. لقد طبعت كتاباته مسحة أخلاقية. ومثال ذلك ما يذكره عن عميل يدعى جيانغ كيجو Jiang Qixu: «لقد أوغل في الإجرام، وكانت يداه ملطختين بدماء الناس».

ثانياً :

 وللأسف، لا يجد المرء كثيرا من أدب المناجم في هذا الضرب من الروايات   وانتهى احتلال منجم لينغلونغ على نحو درامي وسط وابل من العيارات النارية، وأشهر قائد اليابانيين المحاصر سيفه بوجه ضابط صيني متحديا، فأطلق عليه الضابط الصيني النار وأرداه قتيلا. وسُحل العميل جيانغ من مخبئه وأعدم. وتردد صدى الطلقة الحادة في أرجاء جبال لينغلونغ». وقد تصادف استرداد منجم لينغلونغ مع نهاية الحرب العالمية، لكن القتال بين الإخوة استمر أربع سنوات، إذ تقاتل الصينيون فيما بينهم لوضع حد للحرب الأهلية، وعلى الرغم من تراجع إنتاج لينغلونغ، فإن المنجم كان يقدم سبعة آلاف أوقية سنويا تذهب إلى خزائن ماو. وربما كان حريا بهم عندما كسب الشيوعيون الحرب في العام 1949 أن يجعلوا لينغلونغ جزءا من قصة الانتصار - أي ذلك المنجم الذي يعود إلى العصور الإمبراطورية، وقد وضع الآن في خدمة الشعب لكن بدلا من ذلك توارى الذهب تحت حجاب عاتم. وفي حروب الأيديولوجيا التي أعقبت ذلك كانت أي صلة بهذا المعدن كفيلة بتعريض المرء لخطر العدوى (عدوى التأثر بأفكار أعداء الثورة).

 ثالثاً :

لقد جسد الذهب مفهوم الثروة الشخصية وخلق ذلك معضلة أمام الشيوعيين: هل كان الذهب نعمة للدولة البائسة في مرحلة ما بعد الحرب، أم تهديدا للنقاء الاشتراكي؟ جاءت الإجابة عن هذا السؤال على ما يبدو في العام 1957 عندما دعم رئيس الوزراء جو إينلاي Zhou Enlal مذكرة توجيهية الغرض منها «تنظيم الجماهير العريضة لإنتاج الذهب لربما كانت الجماهير العريضة قد سبقت إلى ذلك، لكن هذا العمل اكتسب الآن الصفة القانونية وبات جزءا من خطة إعادة إحياء المناجم وتحفيز إنتاج مورد اقتصادي عالي القيمة. ومع ذلك، لم يمض وقت طويل على هذه المبادرة حتى نحيت جانبا في حملات التطهير (الاجتثاث) التي عرفتها الصين: الحملة المناوئة لليمين وحملات التطهير الأربع  ، والكارثة التي تعرف أحيانا بحرب الشباب على الموروث القديم - أي الثورة الثقافية. لقد أرسلت هذه الحركة، بناء على موافقة ماوتسي تونغ على أعمال اجتثاث ما كان يرى فيه تعاطفا مع الرأسمالية في أوساط القيادة، كتائب من شباب الحرس الأحمر Red Guards إلى الأرياف المطاردة المنحرفين . وفي حملة شعواء دامت ".

رابعاً :

عشر سنوات، نكلت عصائب المتطرفين بالطبقة المثقفة وقوضت النظام القانوني و دمرت عائلات بكاملها اغتصابا وقتلا وبترا وحرقا. وفي هذه الظروف المنذرة بالسوء كان الذهب أيضا عرضة للهجوم. لقد أصبحت الحروف الصينية المعبرة عن الذهب مرادفا للطبقة البرجوازية البغيضة وتوقف الجيولوجيون عن البحث عن الذهب. واعتبرت مؤسسة مجموعة الذهب الوطنية الصينية  ، المنتج الرئيس للذهب في الصين، وكانت نفسها صنيعة الدولة احتكارا بورجوازياء، وحلت. وهكذا لم تعد صناعة الذهب الصينية قائمة رسميا. اجتث أحد الرجال الذين عملوا فيما بعد على تحويل صناعة الذهب في الصين إلى القوة الاقتصادية المحركة في عالم اليوم، وكان عرضة للاضطهاد أول الأمر عندما قابلته كان جو فينغسان Zhu Fengsan في الثانية والثمانين. كان منتصب القامة أنيقا، وذا شعر كثيف مسرح إلى الوراء، وكان تعبير وجهه المميز ابتسامة ساخرة ممحصة لدى زيارتي له كان يتعافى من حادث ألم به، عندما صدمت دراجته الكهربائية. وقد تشظت رضفة ركبته من جراء الاصطدام. ورفع كم بنطاله ليريني إصابته. ورحنا نعاين الرضوض الصفراء وندبة طولها ثماني بوصات، وقد خيم علينا الصمت برهة ثم قال: «يعتقدون أن ذلك خطئي، لأنني في الثمانينات من عمري وما كان ينبغي لي أن أجرب الدراجات الكهربائية الجديدة». ولد جو في مدينة هانغزو Hangzhou وكان الابن الأصغر لأحد صيارفة شنغهاي التي وصفها ماركو بولو بأنها أفخم وأرقى مدن العالم، بلا منازع، ويوافقه الصينيون الرأي. ويضيف ماركو بولو إلى وصفه قائلا: «في الأعلى ثمة السماء وتحت لمة هانغزو» التحق جو بالمدرسة الثانوية التابعة لجامعة القديس يوحنا (سانت جون) وهي من مؤسسات كنيسة إنجلترا المرموقة في شنغهاي. وبعد المدرسة الثانوية التحق بالجامعة سنة واحدة، لدراسة العمارة كان يأمل إلمام دراسته في الولايات المتحدة، لكنه أخفق في أثناء الحرب الأهلية الصينية في الحصول على جواز سفر. وبعد انتصار الشيوعيين قيد القبول الجامعي، وحضرت فروع الدراسة في المجالات التي اعتبرت ذات فائدة للدولة، واختار جو علم الجيولوجيا، وتخرج في أرقى الجامعات جامعة تسينوغوا Tsinghua University في العام 1952. وتخرجت في الوقت نفسه خطيبته وزميلته في الدراسة، جو مينغباو Zhou Mingbao، وهي جيولوجية أيضا. وبينما كان جو يفكر في مساره المهني بعد التخرج، اختارت إيميلي كما كان يسميها أن تعمل مدرسة. يقول جو، وهو يربت على ركبتي للتأكيد على ما يقول: «حينذاك، لم يكن أحد يرغب في أن يعمل مدرسا باستثناء إيميلي. كانت المتقدم الوحيد للوظيفة». وتنهد وهز رأسه: «لقد أحببتها، لذلك كنت ملزما بالتأكيد بأن أفعل كما فعلت. وانتقلا إلى تشانغشون شمال شرق بكين عبر رحلة طويلة بالقطار، والتحقا بالعمل في الكلية الجيولوجية Geological College. وبعد ست سنوات في العام 1958، اكتشف الحرس الأحمر أمره. ووفق ما أكد في قصته التي رواها لي لم ينتقد بلده على الإطلاق، وكان دائما يصف نصر الشيوعيين في العام 1949 بالـ «التحرير».

خامساً :

 كان قد تبوأ منصب . عمادة كليته لأربع سنوات عندما انتزعه الحرس الأحمر من عائلته ونفاه إلى الأرياف لـ «إعادة تثقيفه» على يد الفلاحين عمل هناك في إنشاء الطرقات وكدح في أعمال المناجم. وعاد إلى التدريس في العام 1962 ووجهت له التهم مرة أخرى في العام 1969، وانضم إليه هذه المرة زوجته وأولاده، واشتغلوا جميعا في إحدى المزارع لمدة ثلاث سنوات. وعندما سمحت له الدولة بالعودة إلى التدريس في العام 1972، كانت لاتزال تعده شخصا لا يعول عليه، وهكذا لم يسمح له في كليته الجامعية بتدريس المعادن الاستراتيجية مثل اليورانيوم. أما الذهب فكان خاملا   من الناحية الأيديولوجية. وقد حدد لينين موضعه في الفكر الاشتراكي في العام 1921 عندما قال: «عندما تنتصر سنصنع المراحيض العامة من الذهب». وهكذا سمح لشخص لا يعوّل عليه، من أمثال جو بتدريس هذا المعدن الوضيع يقول، وقد بسط يديه الرشيقتين كمن أماط اللثام عن اكتشاف جديد وعلى الفور، وجدته مجالا ممتعاه. توفي ماو  في سبتمبر 1976، وبعد شهر أطاح انقلاب بعصبة الأربعة Gang of Four، وهم الجماعة المتنفذة التي كانت مسؤولة عن تنفيذ سياسات ماو. وتبوأ السلطة الرئيس الإصلاحي دينغ جياوبينغ وعاد الذهب إلى سابق عهده، وقد حظي بالقبول، باعتباره معدنا ذا مزايا جلية بالنسبة إلى بلد متعطش للعملات الأجنبية. وفي العام 1978 بلغ سعر الذهب الوسطي 200 دولار. وفي العام التالي وصل إلى 520 دولارا، وقد عمل الجيش الصيني، وقد حفزته فرص تحقيق المكاسب، على تأسيس وحدة للتنقيب عن الذهب ). وتوسع جيش الذهب Gold Army كما كان يطلق عليه إلى قوة قوامها 20 ألفا من المنقبين عن الذهب. وأصبح جو مستشارا لكبار قادة جيش الذهب وترقى في ثلاث سنوات من آخر الصفوف في الدوائر الجيولوجية الصينية إلى المقدمة. وقد عكس صعوده بهذه الطريقة التحول الارتدادي السريع للصين. وألغى دينغ التمييز على أساس الطبقة الاجتماعية، وهكذا لم يستعد ابن الصيرفي اعتباره فقط، بل وجد نفسه أيضا وسط صناعة رائجة، أعيد إحياؤها. وقد كان تحت تصرف ضباط جيش الذهب قوات ضخمة وسلطات واسعة. كانت تنقصهم المعرفة فقط. إن تحول الصين من مجرد منتج للذهب إلى مقدمة دول العالم في إنتاج الذهب حكاية أسهم في تأليفها جو. وقد فتح الباب في رحلاته إلى المناجم الأجنبية وتأسيس ملتقى علمي لجيولوجيي الذهب الغربيين أمام التكنولوجيا التي ساعدت الصين على الكشف عن احتياطياتها. لقد أظهرت الصين في استراتيجيتها لاستغلال هذا المورد الذي بات يحتل مكانة خاصة أخيرا، حنكة في مجال التنقيب فاقت قدراتها الفعلية فيه وتتجسد في ميلها إلى الاستفادة من خبراء التنقيب الغربيين.