نهر الذهب - الجزء الثاني

 

نهر الذهب - الجزء الثاني

أولاً : 

في مطلع العام 1527 كانت سفينة إسبانية تمخر عباب الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية عندما تبينت مركبا شراعيا،ً وقد غيرت اتجاهها وتجاوزته، كان هذا المركب طوفاً من خشب البلزا، كانت للمركب أشرعة قطنية وهيكل متطور، وقذف أحد عشر رجل من طاقم المركب المحجوز المكون من عشرين بحاراً أنفسهم في البحر، وغرقوا جميعاً، واستسلم الباقون، ووفقاً للرواية الإسبانية :كانوا يحملون العديد من قطع الحلى الفضية والذهبية للاستخدام الشخصي، ومنها التيجان والأكاليل، والطماقات (الأحزمة) والأساور، ودروع، الساقين، ودروع الصدر، وملاقط الشعر، والصلال، وخيوط وعناقيد الخرز  والياقوت، والمرايا الموشاة بالفضة، والزمرد والعقيق الأبيض، والجواهر الأخرى، وقطع الكريستال.".


ثانياً : 

والتحقت السفينة بالسفينة المرافقة، وكانت تقل قائد الحلمة فرانسيسكو بيزاور، كان رجاله في حالة يرثى لها، إذ كان يلقى ثلاثة حتفهم في كل أسبوع، بسبب الجوع أو المرض، وكان الساحل قاحلاً ومملوءً بأشجار الأيكة الساحلية، فيتعذر خوضها، وقد سمع بيزارو لمن شاء من رجاله بالعودة إلى الديار واختار معظمهم العودة، ولم يبقى إلا ثلاثة عشر رجل.

وواصل بيزاور وبقية الرجال إبحارهم، وبلغوا قرية ساحلية اسمها تامبرريز، tumrez، ومن هناك انطلقوا في طلعات استشكافية في أعماق الجنوب إلى أن أحاطوا بما وقعوا عليه، وكما ذكر جون هيمينج : " شاهدوا تخوم حضارة عظيمة كانت نتاج قرون من التطور، في معزل عن بقية الجنس البشري." .

وعاد بيزارو أدراجه في أسبانيا من أجل تجهيز حملة بحرية، ووجد البلاط مبهوراً بآخر الكنوز الآتية من المكسيك، وأسبغت عليه الملكة حق ضم الأراضي بالفتوحات، وعاد إلى بنما واستقل السفينة، وفي 1532م، بعد رحلات طويلة ومرض ملازم، وبعد سلسلة من الحملات اليائسة والإخفاقات، أدار اثنان وستون خيالا، ومائة وستة جندي راجل ظهورهم للمحيط الهادي، ويمموا وجوههم شطر إمبراطورية الأنكا.

كان تاونتينسوسو وهو الاسم الذي أطلقه شعب  الأنكا على بلادهم، تمتد مسافة 3 آلاف ميل من قلب ما يعرف اليوم من كولومبيا إلى تشيلي، ولم يتسنَ للإسبان الزاحفين إليها أن يحيطوا بمساحتها، لقد حكم إمبراطور الأنكا شعبا عدد 10 مليون نسمة، وكان العداؤون يجلبون الأخبار من كل أنحاء الإمبراطورية، وهم يجرون تتباعا عبر الطرق المرصوفة بالحجارة، وتنقل جنرالات الجيش عبر كراسي ذهبية يحملها الخدم الذين ارتدوا زياً موحداً، كانت الأهراء والمخازن الحجرية تحفظ مؤنة غذاء الإمبراطورية، وارتفعت سفوح الجبال كأنها الجدران.

ثالثاً : 

إن معنى الاسم تانوتسيوسو – أربعة أجزء ضمت معاً، أي دولة فدرالية جمعت في كيان واحد، لكنها كانت عالما جامحاً يصعب السيطرة عليه، وقد أنفق الأنكا الكثير للحفاظ على ولاء قادة الشعوب الخاضعة للسيطرة.

كان أجداد الأنكا أيضا ً في حاجة للعطايا والهدايا، ولم يفقد إمبراطور الأنكا المتوفى صلاحيته المخوله له بصفته الإمبراطورية، كان لكل منهم قصره الخاص في العاصمة الإمبراطورية كوتزكو، يرفل بالزينة والديكورات الذهبية، والأقرط وجلابيب الريش، والتويجات وأقنعة اليشب، كانت صناديق الكنوز ملأى بأشيائهم الخاصة، وكانت حاشيتهم تقابل أوامرهم بالسمع والطاعة، كان حاكم الإنكا يؤدي ثمن ذلك جميعاً، فقد شن حروب الغزو للحصول على الثروة، التي كان يتعين عليه إنفاقها لتوطيد سلطته.

رابعاً : 

ولم ينتقل العرش من الحاكم إلى خليفته وفقاً لقواعد توريث صارمة، كانت صراعات الخلافة على العرش بين أعضاء العائة المالكة المتنازعين توشك أن تقسم البلاد، وزحف بيزارو إلى البيرو، حينما كانت تدور رحى أحد هذه الصراعات.

لقد توفى أحد حكام الأنكا الأقوياء، هواينا كاباك، في العام 1527، بعد ثلاثين سنة قضاها في الحكم، تاركا وراءه وريثين، اعتلى ابنه هواسكار، العرش في كوتزوكو، أما أخوه أتاوالبا، الذي كان يرافق أباه في الحملات العسكرية فقد ظل قائداً للجيوش في الحملات الشمالية، وأدت المشاحنات والتوترات بين الأخوة إلى نشوب الحرب الأهلية، وشن هواسكار هجوماً على نحو الشمال لكن قائد جيش أتاوالبا هزمه، وفرض سيطرته على هوتزكو عام 1532، فقتل عائلة هواسكار وأوقعه في الأسر، في تلك الظروف بدأ بيزارو زحفه نحو الأمبراطورية.

ولعل الأقرب إلى المنطق القول أن أتاولبا كان سيسحق الأسبان لولا انشغاله بالحرب. لقد علم بقدومهم، وأرسل إليهم الهدايا، وفي الوقت نفسه، كان لا يعلم ما آلت إليه معركة الاستيلاء على كوتزو، ولم يكن يعلم الطرف المنتصر، قواته أم قوات هواسكار، وكان هذا من حسن طالع بيزارو، لأن أتاولبا ربما دار في خلده أن يستعين بالإسبان على أخيه، وهذا يفسر عدم هجوم الإنكا على الإسبان في أثناء زحفهم، حين كانوا في أضعف حالاتهم، ومن حسن طالع بيزاور أيضاً أن معسكر الإنكا، ولعله كان على مسيرة شهور عبر الجبال، كان قريبا في المتناول، في الاتجاه الذي زحف فيه، مما عزز فرصة مقابلة أتاولبا قبل ورود الأخبار من كوتزكو.


خامساً : 

وبذلك باتت قوات الإسبان في دائرة قوة الإنكا العسكرية، ووفقا للوصف الذي يقدمه هيمينج، ارتقى الإسبان طريقا للإنكا، على طول الوادي الذي كان يضيق كلما تقدموا فيه، ومضوا نحو الجبال، وحيثما تجهوا بانظارهم عبر الطريق، كانوا يشاهدون الثغور العسكرية للإنكا، فوقهم في المترفعات العالية، وكان الإنكا يرقبون تقدمهم بكل تأكيد.

وروى عن بيزارو قوله : "كان الطريق سيئاً جداً، حتى بالنسبة إلى الخيول، بحيث كان سيسهل عليهم هزيمتنا هناك، أو عند معبر جبلي آخر اكتشفنا وجوده بين موقعنا وبين مدينة كاجاماركا، ذلك أننا كنا عاجزين عن استخدام الخيول على الطرقات، ولم نكن قادرين على قيادتها بمهارة، لم نكن قادرين على نمضى بخيولنا أو مشاتنا خارج حدود الطريق.".

وفي 15 نوفمبر بعد سبعة أسابيع من مغادرتهم للطريق، وصل الإسبان إلى ممر جبلي أعلى كاجاماركا، ولابد أن المشهد الذي رأوه حين انكشف الوادي أمامهم قد أخذ بألبابهم، فعلى تلة مهيمنة على المدينة نصب الإنكا معسكراتهم، كان الحاكم وسط جيش قوامه ثمانون ألفاً، وقد كان مشهد عسكر الإنكا مبهراً، ووفقا لرواية أحد رجال بيزارو :"كانت مدينة باهرة الجمال، لم نر مثل هذا المشهد في الأنديز قبل، لقد بات في قلوبنا نحن الإسبان الخوف  والاضطراب، ولكن ما كان جديراً بنا نظهر الخوف، ولا أن نولي الأدبار، وإلا شعر الهنود بضعفنا، لأقدم هؤلاء الهنود الذين جلبناهم معنا على قتلنا، ولذلك وبعد أن تحلينا بالمعنويات العالية، وبعد إجراء معاينة شاملة للمدينة والخيام، انحدرنا نحو الوادي ودخلنا في مدينة كاجامراكا"، وهكذا بدأت إحدى أغرب مواجهات القوى المتحاربة في التاريخ.

أرسل بيزارو وفدا إلى معسكر الإنكا، وعبر الوفد بين صفوف الجيش الذي لفه الصمت، مراقبا ما يحدث، كان أتاولبا في ينبوع المياه الحارة مع حريمه، محاطاً بأمرائه وقادته، وقد جلس على كرسي وطيء، وتدلت من جبهته الشرابة القرمزية التي ميزته عن الآخرين، ووفقا لوصف الإسبان أظهر أتاولبا أنفة عظيمة، فلم يلتفت إلى الإسبان ولم يعدل جلسته عندما اقترب أحد الخيالة كثيراً، بحيث هزت الأنفاس المنبعثة من محجري أنف الحصان الخيوط القرمزية المتدلية على وجه الأنكا، ولم يرفع أتاولبا بصره إلى أن أبلغه أحد المترجمين بأن ذلك الشخص الذي وفد إليهم، كان شقيق القائد الأبيض هيرنادو بيزارو، وبعد وعود مبالغ فيها بتوطيد عرى الصداقة بين الجانبين التمس وفد الأنكا أن يزور بيزارو في المدينة.