سيد الرجال - الجزء الثالث

 

 أولاً : 

لكن هؤلاء كانوا قلة محظوظة؛ ذلك أن فورة الذهب في كاليفورنيا لم تقم على استخدام الملاعق كان ثمة أداة مختلفة ظهرت لاستغلال مناجم الذهب: إنها شركة المناجم. وأسست العشرات من الشركات  ، واجتذبت رأس المال من مدن الساحل الشرقي وأوروبا. وعندما اكتشفت الفضة في نيفادا اشتعلت الفورة المضاربية. وارتفع عدد الشركات من العشرات إلى الألوف. ودعم تدفق الاستثمارات تطوير تكنولوجيا جديدة ، ولكن ليس إلا لاحقا في خضم فورة الذهب، عندما استنفدت جيوب المعدن سهلة المنال. كانت المعدات الأوّل التي استخدمت في التلال بدائية. ولم تكن المصوّلات تختلف من حيث التصميم عن تلك التي استخدمها الرومان. لقد شطفت المياه الأتربة الخفيفة لتكشف عن رقاقات المعدن المترسبة الأكثر وزنا. كانت مضخات السلاسل التي أحضرها عمال المناجم الصينيون إلى كاليفورنيا معروفة في آسيا منذ القدم: ذراع العتلة التي بدلت إلى حزام حمل الصواني الخشبية، وكانت الصواني تنضح الماء من المناطق المغمورة وتغذي المصولات وتصور الروايات فورة ذهب كاليفورنيا بلغة شاعرية  . وعلى حد تعبير أحد مؤرخي تلك الفترة: «ليس ثمة إلا القليل من الأحداث في تاريخ الولايات المتحدة التي كسيت طابعا محببا أثيرا فمنذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، صور معظم المؤرخين تلك الفترة كملحمة بطولية ودرامية معا، وكخطوة عملاقة نحو تحقيق القدر المحتوم للأمة».


ثانياً :

 وفي هذا التمثيل المثير، تتحسس ثلة من الرجال الرواد رائحة الثروة وتخط قصة تأسيس هذه الولايات «الذهبية». لكن الحقيقة أكثر قتامة. فقد جلب بعض الأمريكيين العبيد إلى المناجم. ويقدر أحد الباحثين أن نصف عدد الرجال السود العاملين في كاليفورنيا في العام 1850 كانوا عبيدا. وكان عمال المناجم المكسيكيون يعيشون عبودية الدين، حيث كانوا مقيدين بالدين تحت رحمة أسيادهم. وعمل العمال غير المهرة الصينيون بموجب عقود طويلة الأجل وفقا لنظام بطاقات الاستحقاق Credit-Ticket System الذي جعلهم تحت رحمة الوسطاء (السماسرة) الذين كانوا يدفعون أجور عبورهم وانتقالهم. وعلى رغم أن الأمريكيين لم يكونوا عبيدا، فإنهم كانوا يعملون من السادسة صباحا في المياه المتجمدة المتشكلة من ذوبان الثلوج في المناطق المرتفعة. كان يتعين على عامل المنجم أن ينظف 160 دلوا من الطين يوميا للحصول على أونصة واحدة من الذهب  .


ثالثاً :

 وكتب أحد عمال المناجم: «من الصعب أن تصف قذارة هذا العمل المتمثل في التنقيب عن الذهب. إننا نعيش جميعا كالوحوش لا كالبشر». وكان المستثمرون أنفسهم يعانون جراء ذلك  ، حيث كان المطلعون يتلاعبون بسوق الأسهم، ويتحايلون على حملة الأسهم، وقد انتزعوا المناجم من المالكين ،الضعفاء، واستنزفوا الشركات من الأموال وحولوها إلى جيوبهم.

لكن الذهب تسرب إلى العالم. وكان الذهب مصدر حركة العجلة الشيطانية للعبودية والاضطهاد والاحتيال. وعلى أساس نقود اليوم (90)، يقدر الذهب الذي تدفق من تلال كاليفورنيا بمليارات الدولارات، وزاد العرض بسرعة فائقة. وقد أجرى روبيرت والز Robert haples) ، أستاذ الاقتصاد في جامعة ويك فوريست Wake Forest University عملية حسابية تبين من خلاها أن كاليفورنيا أنتجت بين العامين 1848 و 1857 ما قدره 848 طنا من الذهب، وعند السعر الحكومي الأمريكي الرسمي البالغ 20.67 دولار للأوقية (92) ، وصل إنتاج ذلك العقد من الزمان وحده إلى 561 مليون دولار أمريكي من الذهب - أي ما يعادل 2 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي للدولة. وأدت الاكتشافات الجديدة في أنحاء أخرى من العالم إلى زيادة الإنتاج أيضا   ، وبحلول العام 1852 أي بعد أربع سنوات فقط من اكتشاف الذهب في ساترز ميل Sutter's Mill كانت مناجم الذهب في العالم تنتج 280 طنا سنويا - أي أربعين ضعفا من كمية الذهب المسجلة عند نهاية قرن السلب والنهب الإسباني و 200 ضعف من كمية الذهب في الحقبة التي سبقته. كان سيل من الذهب يتدفق إلى سوق عطشى. وكتب أحد المؤرخين: «باعتبارها مقرضا للعالم أجمع، حصلت لندن على طلائع هذا الذهب» . وفي غضون أربع سنوات زاد بنك إنجلترا احتياطياته من الذهب من 12.8 مليون جنيه إسترليني إلى 20 مليون جنيه إسترليني. واشترى مصرف فرنسا كميات أكبر، فزاد احتياطياته من سبائك الذهب من 3.5 مليون جنيه إسترليني إلى 23.5 مليون جنيه إسترليني. كانت بريطانيا وحدها آنذاك تطبق معيار الذهب رسميا، حيث كانت الأوراق النقدية قابلة للتحويل إلى ذهب. لكن تدفق الكثير من الذهب إلى النظام المالي، ومكانة بريطانيا باعتبارها مركزا مصرفيا عالميا، أحدث شرخا في جدار نظام المعدن الثنائي المطبق في القارة الأوروبية. واشترت ألمانيا ذهبا بقيمة 50 مليونا في العام 1871(95) وأصدرت عملة جديدة مغطاة بالذهب. وقد علق السياسي الألماني لودفيج بامبيرجر Ludwig Bamberger بالقول: «لقد اخترنا الذهب، ليس لأن الذهب ذهب، ولكن لأن بريطانيا هي بريطانيا» .


رابعاً :

 وبدأت أحجار دومينو الفضة في التساقط . ففي الولايات المتحدة أبطل قانون سك النقود للعام 1873 فعليا التعامل بالفضة باعتبارها نقدا - وكان هذا القانون يسمى «جريمة في العام 1873»، على حد تعبير جماعة الضغط المؤيدة للفضة. كما ألغت الدول الإسكندنافية الدور النقدي للفضة في العام 1874، وتبعتها هولندا بعد عام واحد، واعتمدت فرنسا وإسبانيا معيار الذهب في العام 1876. بنظرة راجعة إلى أحداث التاريخ، يمكن أن يبدو الأمر كأنه ضرب من الحكمة النقدية الحتمية كان يستشري في الدول التجارية الكبرى، ويهيمن عليها. ويعتقد بعض الباحثين أن نظام المعدن الثنائي أفضل من معيار الذهب  ، وخاصة لأن استخدام المعدنين وفر استقرارا بفضل زيادة عرض النقود. وقد حقق معيار الذهب فترات من التجانس المالي، لكنه أحدث أيضا انقلابات مفاجئة في أحوال الدول. مع (38) وفي العام 1861 علقت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار إلى ذهب حين كانت تكاليف الحرب الأهلية تلتهم مخزون الذهب الفدرالي (39). وأصدر الاتحاد Union بدلا من الدولار القابل للتحويل عملة ورقية اشتهرت باسم الورقة الخضراء Greenback. ولكن في العام 1875، حينما كان معيار الذهب يوطد أركانه أعادت الولايات المتحدة العمل بقابلية الدولار للتحويل، وضربت موعدا في العام 1879 لدخول ذلك حيز التطبيق. ومع ذلك، ومع اقتراب ذلك الموعد كان العجز التجاري أوروبا يعني أن أمريكا تواجه احتمالات تدفق الذهب سريعا إلى الخارج. وأنقذت الخزانة في اللحظة الأخيرة بسبب كارثة ألمت بأوروبا: إذ قضى صقيع أواخر الربيع على المحاصيل الزراعية في فرنسا وبريطانيا. وبذلك انقلبت موازين الأمور.


خامساً :

 لقد أدى ارتفاع تكلفة القمح في أوروبا، ووفرة المحصول في أمريكا إلى تدفق الذهب من أوروبا إلى الولايات المتحدة لشراء الغذاء اللازم). وبذلك بدأت فترة رواج في الصادرات الزراعية الأمريكية امتدت ثلاث سنوات، مما أدى إلى تعاظم احتياطي الذهب بشكل كبير. وواصل معيار الذهب أداء دوره في نشر البؤس والشقاء بلا هوادة وكادت ردة الفعل اللاحقة على الصعيد المالي الدولي تدمر أمريكا. في العام 1890 هزت أزمة مصرفية عصفت بالأرجنتين الثقة الأوروبية بالمشروعات عبر البحار  . وبدأ المستثمرون بيع الدين الأمريكي، فبادلوا دولاراتهم بالذهب. وبذلك تدفق الذهب في الاتجاه المعاكس، من خزائن الحكومة إلى السفن عبر المحيط إلى باريس ولندن وبرلين. وبحلول العام 1892 ياطي الذهب الأمريكي قد انخفض إلى 114 مليون دولار، وقارب مستوى خطيرا جدا عند 100 مليون دولار، وهو المستوى الذي اعتبرته الخزانة حدا أدنى لاحتياطي الذهب ومرة أخرى اتخذت الولايات المتحدة أكثر الإجراءات المتاحة صرامة: أوقفت الدفع بالذهب. وأظهرت حالة الاضطراب التي أعقبت ذلك مدى تطرف ذلك الإجراء وعدم نجاعته