أولاً :

 في إحدى الأيام جلست إلى مصمم فراغي Modelerيعمل في كيبالي ورحت أحدق في صورة حاسوبية ثلاثية الأبعاد لكتلة الفلز الرئيسة تكثر تحت أرض الوادي المتعرجة أشكال مجسية بديعة ذات لون أحمر أرجواني، وقد ظهرت في الصورة كل التفاصيل - قنوات التهوية ومسارب التنقيب والقنوات الحلزونية لحركة الشاحنات وعمد أحد الفنيين في راند جولد إلى تدوير الصورة على الشاشة لعرضها من مختلف الزوايا. ظللت الصورة بخطوط رفيعة دلالة على مواضع الحفر التي أجراها الجيولوجيون واحدة تلو الأخرى، مع إبراز كل تفاصيل الفلز من التواءات وتعرجات. تعمل شركات التنقيب في بيئة تتفشى فيها حتى الذهب Gold Fever لكن من دون انتقال الفيروس. وتقي هذه الشركات نفسها من خلال تسعير احتياطياتها دون السعر الفوري (السعر الحال) بهامش كبير. تبلغ تكلفة منجم كيبالي التي ستترتب على شركة رائد جولد ومشاركها   ملياري دولار، ويحتمل أن يذهب هذا الاستثمار أدراج الرياح إذا انقلبت حركة سعر الذهب. لقد حددت راند جولد قيمة احتياطياتها عند سعر ألف دولار للأوقية  ، أي أنها لا تعتبر الصخر فلزا ما لم يحقق التنقيب عنه أرباحا عند ذلك المستوى السعري.

ثانياً :

وتأخذ شركات التنقيب السعر في حسبانها دائما لأنه عامل حاسم جدا. وقد طرحت هذا الموضوع على مدير تنفيذي جنوب أفريقي لأحد مناجم الذهب، وطلب مني عدم الإفصاح عن اسمه لصلته بمشروع كيبالي، ولم يرغب في أن تنسب تخميناته إليه. وقد حدثني قائلا: «من السهل إعطاء تقدير تقريبي لأسعار السلع الاستهلاكية. فإذا كان زوج الأحذية يكلف 200 دولار، ويكلف زوج آخر 300 دولار، فإنك تقارن بينهما ثم تختار. وإذا أردت شراء السندات، فإنك تقارن أسعار الفائدة. لكنك إذا أردت شراء الذهب فإنك تدفع سعره الفوري وليس ثم سعر مرجعي له، وليس ثم شيء يقارن به». لقد تلقى تعليمه في وارتون سكول harton School، وعمل مديرا لصندوق استثماري تابع لأحد المصارف السويسرية. وأضاف قائلا: «بصفتي رجل أعمال، واجهتني دائما أسئلة حول قيمة الأشياء. إن من السهل التفاوض حول القيمة إذا ↓ كانت ثمة نقطة مرجعية. لكن ما النقطة المرجعية في حالة الذهب؟». ثمة نقطة مرجعية واحدة لسعر الذهب هي أسعار الأصول الأخرى. لقد أدت المخاوف من عدم استقرار قيم الأصول الأخرى إلى ارتفاع سعر الذهب غير المسبوق في المقام الأول. وقد تسارع هذا الارتفاع بحدوث الأزمة المصرفية في العام 2008، والتي كانت في طور التشكل قبل ذلك. إذ عمد المستثمرون الذين ساورتهم المخاوف بشأن ديمومة فترة الرواج في أسعار الأصول مثل الأسهم والعقارات إلى شراء الذهب للتحوط من انهيار الأسعار بين العامين 2004 و 2007. وتضاعفت استثمارات الذهب في تلك الفترة - نحو 600 طن سنويا - عما كانت عليه في السنوات الأربع السابقة لها، وبات السؤال عن المستوى الذي يمكن أن يبلغه سعر الذهب يدور حول مستوى تراجع الأداء الاقتصادي المحتمل أو بعبارة أخرى سيذوي سعر الذهب عندما يستقر الاقتصاد.

ثالثاً :

عصر ما وباستثناء القليل من استخداماته العملية، يعتبر الذهب فكرة مجردة وينحصر جوهره (أصل قيمته) في سعره. بل إن سوق المجوهرات بحد ذاته يقوم على ذلك الاعتبار - أي ما إن كان الذهب باعتباره مادة يفوق الأشياء الأخرى قيمة. لقد هجر الذهب موقعه الأصلي في المخيلة البشرية. ولا ندري ما إن كان أسلافنا البعيدون اعتقدوا بامتلاك الذهب قيمة من الناحية المادية  . كان الذهب، في قبل التاريخ، يدفن تحت الأرض نذورا للآلهة. كما كان أسلافنا يلقون الذهب في الأنهار بين العامين 2500 قبل الميلاد و 800 قبل الميلاد. وقد نظروا إليه بالتأكيد بعين التقدير لدوره في الطقوس والشعائر، بيد أن قيمته لم تكن بالضرورة محلا للتبادل التجاري. وباعتقاد الباحثين لم تكن قيمة الذهب مستمدة من استخداماته الدنيوية، بل الأخروية  . لقد جسد الذهب لحظة الوداع الأخير الأمنية التي أريد لها أن تدوم إلى الأبد. وربما يرمز ثبات حالته إلى مقاومة الروح البشرية للموت. ولا بد أن شيئا من تلك العلاقة انتقل إلينا عبر الأجيال لكن الذهب هذه المرة كان ملاذ البشر من كارثة أخرى. كانت أهوال الكارثة ماثلة أمام العيان وسط الأزمة المالية التي شهدها القرن الحادي والعشرون لقد اعتبرت إحدى نظريات الثراء الفاحش أن التركز المستمر للثروة في أيدي طبقة الأثرياء سيؤدي إلى دمار تلك الطبقة  ؛ ذلك أن استنزاف تلك الطبقة للمزيد والمزيد من الموارد المتاحة وتحويلها إلى جيوبها، مع إفقار الأطراف الأخرى المشاركة في العملية الاقتصادية، كان يعني تدمير الاقتصاد نفسه، ومن ثم تدمير تلك الطبقة نفسها. وبتواتر القصص المروعة تباعا عبر الأنباء، كان ثم شعور بأن الذين سببوا الكارثة لم يغيروا نهجهم. لقد انخرطت المصارف في أنشطة جنائية مثل غسل الأموال والتلاعب بأسعار الفائدة وحبس رهونات العقارات السكنية بأساليب غير قانونية.

رابعاً :

 ومع ترنح الاقتصاد تراجعت الإيرادات الحكومية وتدهورت موارد المالية العامة في تلك الظروف حقق الذهب أفضل طفرة صعودية في التاريخ. يستقبل بريدي الإلكتروني كل أسبوع مجموعة صور تبين التقدم الحاصل في منجم الذهب الواقع في أويو تولجوا yu Tolgoi منغوليا، والذي تبلغ احتياطياته خمسة وأربعين مليون أوقية في غابة الخيزران ينكب آلاف الحفارين على شق التربة. 

خامساً : 

وقد انتقل البحث الآن إلى أعماق المحيطات، حيث يربض ذهب تقدر قيمته بتريليونات الدولارات في الجيوب الكبريتيدية داخل فوهات البراكين. لقد أبرمت شركة نوتليوس مينيرالز أوف تورنتو Nautilus Minerals of Toronto عقد إيجار مدته عشرون سنة لاستغلال أحد مكامن الذهب المستهدفة في جنوب غرب المحيط الهادي، ويقدر وجود احتياطي بعشرة أطنان من الذهب فيه. ويعكف الصينيون على تطوير غواصة الغرض منها استكشاف جيوب الذهب في أعماق البحار، وقد حازوا حقوق التنقيب في مساحة قدرها 3860 ميلا من قعر البحر على حافة بركانية بعمق ميلين في المحيط الهندي. وليس ثم استخدام جديد للذهب يسوغ ذلك البحث، وإنما المبرر القديم نفسه: اعتقاد راسخ أن الذهب سيوفر الملاذ الآمن وقت الأزمات. وكما الأوبئة الأخرى، تجتاح حمى الذهب العالم وتخلف آثارا متباينة في كيبالي انتقلنا لمدة يوم واحد مرورا ببلدة دوربا Durba في موكب من السيارات الرياضية البيضاء، وقد أثرنا خلفنا سحبا من الغبار الأحمر الكثيف طالت الناس في جانب الطريق. وأغلقنا زجاج نوافذ السيارات تحاشيا للحرارة والغبار. ورحنا ننظر من مركبتنا الفضائية المكيفة خارجا نحو الكائنات الفضائية  . تبلغ نسبة الأطفال المصابين بالملاريا تسعين في المائة. وقد تدبر بعض القرويين الفرار من الملاريا بفضل عملية تحوّل إعجازية، انتهت بانتقالهم إلى المساكن التي كانت راند جولد تشيدها، والتي كنا في الطريق لمشاهدتها. كانت قمة بيوت بنغل (بيوت الطابق الواحد) بلون المغرة الصفراء ذات نوافذ وأبواب زجاجية موصدة، ويتوافر فيها الماء والكهرباء، وقد جعلت ضمن مخطط بلدة حديثة واقعة داخل بستان نخيل إلى جانب نهر تتلألأ صفحته، ويحدد موقع السور المسموح لهم بسكني تلك البلدة. كان السور يحيط بقطعة الأرض التي بداخلها منجم الذهب. وكانت الأرض التي أرادت راند جولد التنقيب فيها داخل هذا السور أيضا. ومن كان منزله في الداخل فلا ريب في أنه من سكان الجنان. شاهدت في محيط البلدة امرأة تقف في أحد الحقول وقد اتكات على مدمة  . كانت ترتدي عمامة خضراء ولباسا أصفر قذرا، وانطفأت في وجهها جذوة الأمل. لقد أدارت لنا ظهرها فيما كنا نمضي في طريقنا.