ذهب الظل - الجزء الرابع

 

أولاً : 

لقد وصل الذهب المبدل بالنقد في نهاية المطاف إلى بازل، مخلفا في إثره سلسلة من الالتزامات. وباعتبار أن شيئا من جاذبية الذهب الاستثمارية يستمد من وظيفته المفترضة كملاذ آمن، فمن المنطقي التساؤل: ما الذي سيحدث إذا طلب مالك سندات الملكية استرداد المعدن بعينه (أي فعليا). في ظروف تسودها الشكوك حول كمية الذهب الفعلية التي تشكل غطاء لسندات ملكية ،الذهب سيتجه تفكير المستثمرين إلى صناديق الاستثمار المتداولة هل تمتلك تلك الصناديق الذهب الذي يفترض أن يكون لديها؟ وإذا كانت قد خصصت الذهب فلا بد أن يكون محفوظا في الركن المخصص لها داخل المخازن وما لم يكن ذلك الذهب المكتنز قد شابه شيء من السبائك المغشوشة التي هي خليط من التنجستين (112) والتي وجدت طريقها أخيرا إلى الأسواق، فإن المستثمر يظل في منأى عن مخاطر العدام التغطية  . بید أن مصدر القلق المنطقي الذي ينتاب المستثمر يتمثل فيما سيحدث الصناديق الاستثمار المتداولة التي محلها الذهب إذا استشرى الهلع في السوق. بفرض أن هبوطا حادا في سوق الأسهم أدى إلى حدوث طلبات تغطية الهامش.

 

ثانياً :

وقرر بعض المستثمرين بيع الذهب لتغطية مراكزهم الاستثمارية. لنتخيل أن كثيرا من المستثمرين الذين اعتمدوا على الذهب في إنقاذ مراكزهم يملكون حصصا صغيرة في صندوق الاستثمار المتداول نفسه تشكل هذه الحصص بمجموعها حصة كبيرة. عندما يحاول المستثمرون استرداد حصصهم لن يكون ثمة كثير من الذهب التلبية طلبات الاسترداد وبذلك يتردى صندوق الاستثمار المتداول في مهاوي الإفلاس. ويؤدي هذا الفشل إلى احتشاد طلبات الاسترداد على صناديق الاستثمار المتداولة الأخرى جميعها تلك التي يتوافر لديها الذهب فعلا لتغطية كل الحصص فيها. وتبدأ الصناديق ذات الملاءة ببيع الذهب لتلبية طلبات الاسترداد. وهكذا تتدفق موجات متتالية من الذهب إلى السوق. ويترنح سعر الذهب، وكذلك تتراجع أسهم شركات التنقيب عن الذهب ونتيجة الصدمة الناشئة عن هذا الانهيار، تتحول حالة التزاحم للتخلص من تلك الأسهم إلى فوضى عارمة. وإذا كان البعض يرى في هذا التوصيف (السيناريو) أمرا بعيد الاحتمال فإنه يظل يعبر عن السيناريو الذي يفترض في الذهب أن يحول دون وقوعه. إن جزءا من السبب الكامن وراء الاستثمار في الذهب مرده هذا الاحتمال دون غيره: اشتر الذهب، وانعم براحة البال. بيد أن الذهب ليس خلوا من الهموم والشجون إنه حمى تغذيها الشكوك فالشك والريبة هما العاملان الممرضان المسببان لتلك الحمى. وإلى جانب وظيفته التزيينية (الحلي والمجوهرات) وبعض الاستخدامات الصناعية ليس ثمة أسباب أخرى تدعو إلى اقتنائه. فالذهب لا ينفصل عن التكهنات الدائرة حول الكوارث وإساءة تطبيق القانون وعمليات التلاعب لا بل تنتاب من يملكون الذهب عند ارتفاع سعره، تلك الحمي التي تتجسد في خشيتهم من تراجع هذا السعر. وفق لائحة الأسعار الصباحية في لندن يوم 5 سبتمبر 2011، بلغ سعر الذهب 1896.50 دولار للأوقية. كان بلوغ هذا المستوى السعري أمرا حتميا، وقد ساعد على ذلك المنحى الصعودي الذي اتخذه مدة عشر سنوات. وفجأة بلغ السعر عتبة ألفي دولار - كانت قبضته محكمة وطوال عام بكامله، كان المحللون الماليون يتنبأون بتجاوز الذهب ذلك الحاجز، وقد تساءلت باعتباري أحد المتابعين لشؤون الذهب كم سيدوم ذلك، وكيف سيمكن تبرير السعر؟ من حسن الطالع، كان لدي موعد للاجتماع مجددا ببيتر مانك. لقد اتصل بي مدير مكتبه لإبلاغي بأنه سيعرج على لندن. وكان يرغب في التحدث عن سعر الذهب، وكنا سنجتمع في تلك اللحظة التي اندفع فيها الذهب صعودا ليتجاوز ألفي دولار. كانت ريح ومضيت إلى مايفير Mayfair كانت الريح في بارك لين Park Lane تهب وتقلب المظلات إلى الخارج وتلصق معاطف المارة بسيقانهم وعندما مرت السيارة من أمام فندق دورشستر اندفعت نبتة إبرة الراعي (الغرنوقي) وقد علقت كتلة من التراب بجذورها نحو زحمة السير واصطدمت بإحدى السيارات وتناثرت عليها.

ثالثاً :

في ردهة فندق فور سيزونز Four Seasons كانت النسوة يسترقن النظرات إلى شعور بعضهن، وينفضن الماء عن أحذيتهن وفجأة عند الساعة الخامسة والربع خرج مانك من المصعد. ونظر شزرا إلى الردهة المكتظة، وأمسك بذراعي قائلا: «الأفضل أن تصعد إلى الأعلى». عاصفة تشق طريقها عبر جنوب إنجلترا حينما استقللت سيارة أجرة كان يرتدي سترة غير رسمية ( بليزر) قائمة اللون وبنطالا فحمي اللون وقميصا أزرق فاتحا ذا ياقة منسدلة والتمع على ثنية سترته دبوس وسام كند   المزين بطبقة المينا البيضاء. كان مالك قد عاد من فوره مع زوجته من بينالي البندقية Venice. Biennale. لقد أقاما في البندقية على ظهر يخته البالغ 140 قدما طولاء والمسمى جولدين إيجل (النسر الذهبي Golden Eagle.

رابعاً :

 يتطلب الإبحار بهذا البخت طاقما من تسعة أشخاص وقال مانك تعتقد أن اليخت كبير؟ إنه لا شيء! لقد أجبروني على الرسو عند أبعد نقطة من حوض المرسى الأفسح المجال لأصحاب المراكب الأكبر حجما. تبدو تلك المراكب كسفن الرحلات السفن المطوفة Cruise Ships) لا يمكنك أن تتخيل كبر حجمها!» كان لدي تصور عن حجمها، لأني دأبت على مطالعة أخبارها في مقالات تناولت أحدث مشروعات مانك مرفأ اليخوت العملاقة في تيفات Tivat وكانت في الماضي قاعدة بحرية يوغوسلافية في الجبل الأسود (مونتينيغرو). لقد استخدم مانك العدد الكبير لتلك المراكب الترفيهية العملاقة لتوضيح فكرته، أي إن عدد أثرياء العالم اليوم هو الأكبر على مر العصور، وإن لدى هؤلاء مقتنياتهم وأصولهم التي يتعين عليهم صونها وحمايتها. وأضاف قائلا: «إنني أتحدث اليوم إلى الناس، وقد مكنت هنا ردحا طويلا من الزمن، وثمة ما يربطني بالذهب وهؤلاء الناس يثقون بي. ويقبل كل من تحدثت إليه على شراء الذهب الآن، وهم ليسوا من المهووسين بالذهب، يا ماثيو، وإنك لتعلم أن بيتر مانك ليس من المهووسين بالذهب أيضا». وهب واقفا من كرسيه وأجال بصره عبر النافذة نحو المطر المنهمر وقد غمرت وجهه تعابير حادة، إن المهووسين بالذهب هم بالتعريف أشخاص متعصبون - وهم يعتقدون أن الذهب هو النقد الحقيقي، ولا شيء سواه، وأعلم أن مانك لا يعتنق هذه النظرية، لكنني أعتقد أنه لا يجد غضاضة في بيع الذهب لمن يعتنقها. أما وجهة نظره فكانت أن أعدادا جديدة من الساعين إلى شراء الذهب قد ظهرت مع ارتفاع من الثروات المحدثة.


خامساً :

 ويستأنف قائلا: «هؤلاء الناس الذين أتحدث إليهم يُقبلون على الشراء لأنهم يطلبون وسائل الحماية للحفاظ على نسبة من أصولهم، ويعتقدون أن الذهب يؤدي ذلك الغرض، وهم يعتقدون أن النظام المالي لن يتغير إلا إذا وقعت الكارثة. أو ثورة عارمة (كالثورة الفرنسية)، أو اندلعت الحرب، أو خفضت قيمة العملة إلى درجة أن تتخلف حكومة الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها عندها لن يقدم أولئك الذين كانوا يكنزون الذهب على البيع». بيد أنهم كانوا في الواقع يبيعون الذهب. فقد ذكر مدير تنفيذي في شركة ستونهيغ Stonehage مقيم في زيورخ وتقدم شركته المشورة في مجال إدارة الثروات، لوكالة رويترز قبل أيام قلائل أن بعض العملاء الأثرياء جمعوا المكاسب التي حققوها على امتداد عشر سنوات من الموجة الصعودية السعر الذهب ووظفوها في مجال يعتقدون أنه قبلة الاستثمار الرابح في المستقبل: الأعمال الفنية الراقية. وقد اشتملت هذه النقلة على كميات هائلة من الذهب، لأن بعض العملاء استثمروا 15 في المائة من أصولهم في سبائك الذهب. إن الأموال التي حولت إلى ذهب في هذه الخطوة الاستباقية كانت أيضا تتحول عن الذهب في خطوة استباقية أيضا، لا بل في الرمق الأخير. لقد هبط سعر الذهب في اليوم الذي أعقب حديثي مانك. وانخفض في غضون ثلاثة أسابيع بمقدار 300 دولار.