جولد سترايك

أولاً :

كان أعظم المنقبين عن الذهب في العصر الحديث . من أساطين المال  ، رخيم الصوت طاهر اليد، مقداما صلب العزيمة. كان المنجم ينتج أكثر من مليون أوقية ذهب سنويا، ولايزال، وبعد سنة من اكتشاف الطبقة العميقة فيه ارتفعت الأوقية من 380 إلى 500 دولار لم يعثر أحد على مناجم أخرى في نيفادا لأنها غير موجودة أصلا، ذلك أن سعر الذهب لم يجعل الفلز محل اعتبار، فالفلز يتحدد باعتبارات وضعها الإنسان، وليس الطبيعة إذ تعمل الطبيعة على تشكيل المعدن، أما الفلز فهو نتاج الحسابات الرياضية. ويعرف الفلز بأنه الصخر الذي يمكن التنقيب فيه عند مستوى مدر للربح.

 

ثانياً :

تتجاوز قيمة المعدن بداخل الفلز تكلفة استخراجه من الصخر. وعندما حقق ليفرمور اكتشافه كان سعر أوقية الذهب 35 دولارا. وللحصول على هذا السعر كان يتعين على شركة نيومونت إقامة منشأة المعالجة وإزالة الطبقة العلوية الحالمة على الصخر، ثم تفجير الصخر واقتلاعه، ثم نقله بالشاحنة إلى المصنع، ثم تفتيته إلى مسحوق دقيق، ثم تحويله إلى المعالجة عبر مجموعة من الحاويات الخاصة بحيث تعلق جزيئات الذهب بالكربون، ثم جمع الخليط الناتج في نهاية المطاف، وحرق الطفاوة   وصب الناتج في سبائك كل هذه المراحل تتطلب رأسمالا وطاقة واجور عمال. وكان قمة مصدر واحد تسترد منه نيومونت كل هذه التكاليف والنفقات - الأوقية 35 دولارا، مضروبا في الكمية. وفي العام 1965، عندما وضع منجم كارلين قيد التشغيل، كانت قمة جيوب هائلة من الصخر الحامل للذهب متركزة في التلال، لكنها لم تبلغ مستوى الفلز لأنها لم تكن غنية بالذهب بما يكفي لتوفير الدعم المالي للمناجم. وقد غيّرت صدمة نيكسون هذا الواقع.

 

ثالثاً :

وعندما عُطّلت آلية تحويل الدولار إلى ذهب في العام 1971، كان السعر الحقيقي للذهب - أي ما يدفعه القطاع الخاص - في ارتفاع. وحينذاك، بدأت وتيرة الارتفاع بالتسارع وبعد ثلاث سنوات تجاوز سعر الذهب 180 دولارا. وهكذا تحولت مساحات شاسعة من شمال - وسط نيفادا إلى فلز وعمت المرحلة الثانية أي سعر من أعمال التطوير منجم كارلين تريند Carlin Trend. وحينئذ بدأت الحفلة. في النصف الأخير من عقد السبعينيات من القرن العشرين اضطرت سلسلة من الأزمات - الثورة الإسلامية في إيران وارتفاع أسعار النفط والركود الاقتصادي في أمريكا - المستثمرين إلى شراء سبائك الذهب للتحوط من تذبذب أسعار العملات. وارتفع سعر الذهب. ومن ثم في عام واحد، من 1979 إلى 1980، قفز سعر الذهب إلى مستوى مرتفع جدا من 222 دولارا إلى 825 دولارا للأوقية. كان مستوى هذه الزيادة وسرعتها غير مسبوقين كان لهيب الشائعات والمضاربات يستعر حولها. واكتسب الذهب مكانا جديدا في عقول الناس. لقد بات وفق تعبير المحللين «مؤشرا على مزاج السوق Sentiment Indicator - أي مقياسا للعواطف الإنسانية مثل والجشع أو الذعر. وعصفت حمى الذهب Gold Fever بالأسواق وغاب المنطق تماما. ويحكى أن تاجرا نيويوركيا صرح لصحيفة أسوشيتد برس في ديسمبر 1979، بعد أن تجاوز سعر الذهب 500 دولار: «لن يقبل العاقل أن عند هذه يبيع المستويات السعرية، إذ يخشى الجميع تعذر شراء الذهب مرة أخرى»

رابعاً :

  لكن لم يتعذر ذلك عليهم. إذ انخفض سعر الذهب في عامين إلى 290 دولارا، ثم استرد عافيته. وفي عقد التسعينيات من القرن العشرين استقر في مجال يتراوح بين 300 دولار و 400 دولار للأوقية. وباعتبار الذهب من مجالات الاستثمار (أي أصلا استثماريا) فإنه لن يعود إلى سابق عهده. لقد بات استخدام نظام جدید لتصنيف أسهم مناجم الذهب معيارا جديدا للصناعة   (حيث كان المستوى الصعودي لارتفاعات السعر المتوقعة يدمج في هيكلية تقييم الأسهم). وفي أقل من عشر سنوات ارتفعت القيمة السوقية (وفقا لسوق الأسهم) لمناجم ذهب أمريكا الشمالية عشرة أضعاف من 200 مليون دولار إلى 30 مليار دولار، مع تدفق ملايين الأوقيات من الذهب خارج منطقة شمال - وسط نيفادا. لقد اعتمدت الأوضاع المالية لأكبر شركتي تنقيب عن الذهب في العالم على منجم كارلين تريند إحداهما تأسست على يد رجل تعلم من التجربة المريرة أن يقيم اعتبارا لتذبذب أسعار السلع الأساسية  ، وقد وجد طريقة للتغلب عليها. كان أعظم المنقبين عن الذهب في العصر الحديث رجلا من أساطين المال، رخيم الصوت طاهر اليد مقداما صلب العزيمة، وكانت له رباطة جأش أمير ،فلورنسي تنذر بالتهديد والوعيد. ولد بيتر مانك Peter Munk في العام 1927 ، وكان وريث عائلة هنغارية تجارية ثرية. وفي العام 1944، عندما بدأت قوات الاحتلال العسكري الألماني بالقبض على اليهود الهنغار لإرسالهم إلى معتقلات التصفية، كان مانك ذو الستة عشر ربيعا وعائلته من الذين سمح لهم ثراؤهم بدفع المال والهرب على متن قطار كاتزنر Katszner ، وهو وسيلة النقل التي رتب لها ريتزو كاتزنر المحامي اليهودي، لقاء رشوة قوامها المال والذهب والألماس دفعت إلى العقل لا بد أن النجاة من مخالب الموت المذل الرابض على واحد من أطول طرق الهجرة في التاريخ، تخلف أثرها الدائم في الإنسان لا يحب مانك الحديث عن ذلك، أو إذا جاز التعبير، لا يحب أن يحدثني عن ذلك. وثمة بيان بأحداث ذلك في مؤلف آنا بورتر Anna Porter قطار كاتزنر وبورتر، وهي من مواليد هنغاريا أيضا اشرة كندية، ومن أصدقاء مانك. وقد تحدثت عن الإقامة مع مانك في منزله، في حجرة أعتمتها السجف المنسدلة الكتيمة، والسجاد الفارسي الذي يغطي الأرضية وعلى حائطها صورة لبيت جد مانك في أحد أحياء بودابست الراقية، ويبدو الرجل العجوز واقفا في الحديقة. وقد أخبرها مانك كنت أفرز بعض الصناديق، ولا أتذكر الكثير عن الماضي، كان علينا أن نحزم بعض الأشياء القديمة. وقع الطلاق بين والدي مانك عندما كان في السادسة من عمره.

خامساً :

 عاش مانك أول الأمر مع والدته، ثم بعد زواج والده مرة أخرى عاد إلى منزل جده لأبيه. ولدى دخول الجيش الألماني بودابست في مارس 1944 كان دأب مانك التنقل جيئة وذهابا عبر نهر الدانوب في زياراته لوالدته، كاثارينا. وبعد مدة قصيرة، أصبحت تلك الرحلات أكثر مشقة. وفي غضون أيام أصدر النازيون مراسيم تلزم اليهود بارتداء عصابات صفراء على سواعدهم تظهر عليها نجمة داود، وكانت تحظر عليهم استخدام وسائل النقل العام ومع ذلك واصل مانك زياراته. كان فاتح البشرة أزرق العينين، ولم تظهر عليه سيماء اليهودي. وحشر العصابة الصفراء في جيبه، واستقل الترام المتجه عبر النهر، مخاطرا بحياته. بدأت أعمال الترحيل، وفي مطلع يونيو 1944 اشترى جد مانك لأبيه، ويدعي جابرييل أربع عشرة تذكرة لركوب قطار كاتزنر ، ودفع الثمن، كما يذكر مانك، بحقيبة محشوة ذهبا ونقودا من وجهة نظر الشاب كانت خطة هرب العائلة تنطوي على جانب مروع: ذلك أنها استثنت والدته. لم يشعر جابرييل بأن مسؤوليته تحتم عليه أخذ كاثارينا بالاعتبار، نظرا إلى أنها انفصلت عن العائلة. وروى مانك لآنا بورتر أنه للمرة الأولى في حياته، هب مواجها جده، فأكد أنه سيتخلف عنهم في بودابست للبقاء مع والدته.