سيد الرجال - الجزء الرابع

 

 أولاً : 

وقد استنتج عامة الناس أن النظام المصرفي كان في حالة احتضار، وأدى . ذلك إلى نزف الودائع من المصارف واتسع العجز التجاري مع أوروبا إلى فجوة مخيفة قدرها 447 مليون دولار. وارتفع سعر الفائدة للإيداعات قصيرة الأجل في نيويورك إلى 74 في المائة، وانهارت سوق الأسهم. كما أفلست أربعة من خطوط السكك الحديد، ومعها 500 مصرف أيضا. وتعثرت آلاف مشروعات الأعمال. وفي خضم هذه العاصفة الكارثية كانت الولايات المتحدة تواجه خطر الزوال. كان لدى الحكومة 40 مليون دولار هي كل ما بقي من احتياطي الذهب   وكان مخزون الذهب يتراجع بمعدل مليوني دولار يوميا. وقد جزم المال بأن الخزانة على وشك الإفلاس. وفي آخر يوم من يناير 1895، ربضت 9 النقدي مجتمع ملايين دولار من سبائك الذهب - ما يعادل نصف الاحتياطي - على السفن الراسية في مرفأ نيويورك والمتوجهة إلى أوروبا، وفي آخر لحظة، وعند شفير الهاوية، أنقذ البلد من الإفلاس على يد رجل كان الناس ينحُون باللائمة عليه لما وقع من أحداث، وكان هذا الرجل أعظم النبلاء قاطبة الأمير الأمريكي ورجل المال جيه بييربون مورجان Pierpont Morgan ..


ثانياً :

 كان الأمريكيون يعتبرون آل مورجان من أهل الثراء الدائم . ذلك أنهم لم يشقوا طريقهم من درك الفقر، بل كانوا يزدادون ثراء، وكانت نقطة البداية وصول سفينة ماي فلور Mayflower في بليموث حينما اشترى مایلز مورجان Miles Morgan مزرعة في سبرينجفيلد بماساتشوستس، وشرع على حد وصف مؤرخ العائلة في تفريخ أجيال من آل مورجان مالكي الأراضي». (44) وانتقل والد ،مورجان واسمه جونيوس Junius إلى بوسطن في العام 1851 لتوسيع أعماله لتشمل الصيرفة التجارية. وسجل ابنه في المدرسة الثانوية الإنجليزية، ونصحه باتخاذ أصدقاء من بين الذين بدت عليهم «السيماء الصحيحة».


ثالثاً :

وكان مورجان شابا نشيطا ومتحمسا ومزاجيا كانت تظهر على وجهه اندفاعات جلدية مفاجئة وكانت تعتريه نوبات من الحمى القرمزية. وقد أرسل في العام 1852 إلى أزورس Azores للاستشفاء من مرض الروماتيزم الذي سبب تفاوتا في طول ساقيه. كانت الصيرفة آنذاك مهنة متوارثة. لقد غذت العائلات المصرفية الإنجليزية الكبرى مثل بارينغ Baring وروتشيلد Rothschild نزعة تقديس الذات بحيث إن ولتر بيجهوت Walter Baghot ، الصحافي البريطاني وأحد كبار النقاد آنذاك، قدم الوصف الآتي في كتاباته: «إن مهنة الصيرفة متوارثة؛ وتنتقل السمعة الائتمانية للمصرف من الأب إلى الابن هذه الثروة المتوارثة تجلب تحسينا متوارثا». وقد نقل جونيوس مقر عمله إلى لندن في العام 1854 وارتاد مورجان المدرسة في ليك جينيفا Lake Geneva ومن ثم قصد جامعة جوتنجن. عاد بعد ذلك إلى أمريكا ليكون سمع والده وبصره في وول ستريت. على الرغم من المرض الجلدي الذي نكد عليه حياته ومعاناته أحيانا من الأمراض العصبية وأوجاع الرأس الناتجة عن مرض الشقيقة، فإن مورجان أصبح أعظم الصيارفة في أمريكا، وكان بطوله وبنيته الضخمة القوية وبلاغته وجرأته يجوب وول ستريت خلف سحابة كثيفة من دخان سيجار عظيم. وقد قيل إن يخته المسمى كورسير 2 Corsair II بهيكله الأسود الانسيابي ومدخنته الصفراء كان أكبر المراكب الخاصة العائمة آنذاك. كما كان مورجان هاويا لجمع الأعمال البرونزية والخزفية والعاجية والساعات واللوحات والكتب النادرة والمخطوطات والآثار القديمة. كان يشتري نوادر الأثاث والسجاد والدروع، وقد أنفق في عقدين من الزمن نحو مليار دولار بتقديرات نقود اليوم منغمسا في شغفه وبفضل نشأته وتربيته الحضرية وثروته كان الرجل الأمريكي الوحيد الذي قبله الصيارفة الأوروبيون ندا لهم، ولذلك السبب كان سما زعافا في مجال السياسة في الولايات المتحدة. بجمع التحف. ولم تكن الولايات المتحدة وهي لاتزال تغلب عليها سمة البلد الزراعي الدولة الدائنة أو المقرضة كما هو شأنها اليوم، وإنما كانت دولة مدينة. كان ناخبوها في المناطق الريفية يبغضون صيارفة المؤسسة الشرقية، إذ اعتبروهم سببا في عبودية أمريكا للذهب البريطاني. 


رابعاً :

كانت آلية عمل معيار الذهب تلحق الضرر بالمزارعين من خلال كبح جماح الأسعار، وقد عزوا هذا الأثر إلى الحيل الماكرة للأوروبيين الذين كان الممولون الأمريكيون يعينونهم على الشر. وهكذا كانت الأحوال السياسية في نهاية يناير 1895 حيث كانت 9 ملايين دولار رابضة في نيويورك بانتظار شحنها إلى أوروبا. ومع تصاعد حدة الأزمة عقد مورجان اجتماعا مع أوغست بيلمونت الابن   August Blemont, Ir وكيل عائلة روتشيلد في الخزانة المحلية في نيويورك. وقد خفف بعضا من هذا التوتر مجرد اجتماع هذين الاثنين من كبار الممولين. وبين ليلة وضحاها، استردت تسعة الملايين سبيكة من السفن وأودعت من جديد في خزائن الحكومة. لكن الغوث كان مؤقتا في واشنطن رفض مجلس الوزراء عرضا الإصدار سندات خاصة رتب له اثنان من البيوتات المصرفية، وبدأ الذهب يغادر الخزانة المحلية مجددا حيث استرد حملة الدولار المتقلبون المترددون أوراقهم النقدية بالذهب.


خامساً : 

 وهكذا استقل مورجان قاطرته الحديد الخاصة، ويمم وجهه شطر واشنطن. وعند وصوله توجه إلى البيت الأبيض. وقد أبلغ بأن الرئيس، جروفر كليفلاند Grover Cleveland لن يجتمع به وكان جواب مورجان جئت للقاء الرئيس وسامكث إلى أن التقيه». ومكث في البيت الأبيض سحابة اليوم، وعاد إلى فندق أرلينجتون، ولعب السوليتير طوال الليل، وفي الصباح عاد أدراجه عبر ساحة لافاييت واستقبل في مكتب الرئيس. وجلس هناك صامتا فيما كان كليفلاند ووزراؤه يناقشون الحالة الطارئة. وفي نهاية المطاف حضر موظف ليبلغ وزير الخزانة جون کارليسل John Carlisle أن الحكومة لم يبق لديها إلا 9 ملايين دولار من النقد الذهبي، وكان هذا آخر ما لديها وتدخل مورجان فأعلم الرئيس أنه على دراية بشأن كمبيالة قدرها 10 ملايين دولار على وشك أن تقدم لاستردادها ذهبا. وقال متبجحا: «إذا قدمتُ تلك الكمبيالة التي قدرها 10 ملايين دولار، فإنك لن تستطيع الوفاء بها. وسينتهي الأمر قبل الساعة الثالثة». وبدر عن كليفلاند الرد المنطقي الوحيد المتاح أمامه، إذ سأل مورجان عما يمكن عمله. جي كان الحل الذي خرج به مورجان فريدا من نوعه - إصدار سند بقيمة 65 مليون دولار وبيعه لتجمع مصر في أوروبي أسسه مورجان وآل روتشيلد. وعلى الفور انضمت البيوتات المصرفية الأوروبية الكبرى إلى التجمع. وانضمت أيضا مصارف نيويورك، ومقابل علاوة على سعر الفائدة، وافق المكتتبون على دفع قيمة السند بالذهب ليس هذا فقط، بل تعهدوا بممارسة نفوذهم المالي... لحماية الخزانة الأمريكية من سحوبات الذهب»، إلى أن تُسترد قيمة السندات، كان ذلك عملا ذكيا. لقد أبقى مورجان أمريكا خاضعة لمعيار الذهب من خلال تعليق العمل به ومن دون الحاجة إلى استرداد الدولارات التي بحوزة الأجانب بالذهب كان هناك متسع من الوقت أمام الخزانة الأمريكية لاستعادة عافيتها.