منجم لينغلونغ - الجزء الثاني

 

أولاً : 

أشارت ورقة علمية قدمت في المؤتمر العالمي لعلوم التربة في القرن التاسع عشر، ونشرت في العام 2010 إلى أن بعض المنقبين عن الذهب يستخدم حتى اليوم أصناف النباتات دلائل بيولوجية على وجود الذهب في التربة. وقد لاحظ الصينيون وجود مثل هذه العلاقات في العصور القديمة كما استخدموا طرائق جديدة لتنقية الذهب مثل إطعامه للبط. في المرحلة الأولى، استطاعوا إزالة ما أمكن من شوائب الذهب المستخرج بطريقة الشطف . باستخدام الأوعية المعدنية، وخلطوا ما تبقى مع عصافة الحنطة (القش) وأطعموه للبط. ومن ثم جمعوا روث البط، وشطفوا الذهب مرة أخرى، وخلطوا الناتج المكرر بكمية أخرى من العصافة والقموها البط. كرروا العملية ثلاث مرات، وكانوا في كل مرة يزيلون الذهب المستخرج، ثم يطعمون البط آخر دفعة من العصافة - العصافة الخالصة - لانتزاع حبات الذهب المتبقية. وفي مطلع الألفية الأولى كان لدى حكام الصين احتياطيات من الذهب قدرها مائنا طن، أي ما يعادل احتياطيات الذهب لدى الإمبراطورية الرومانية آنذاك ) .. ثم تراجعت أعمال التنقيب بحدة إلى مستويات متواضعة جدا. ومع تحول المغول إلى قوة مهيمنة في القرن الثالث عشر حاولوا إعادة تأهيل مناجم الذهب. وأخضعوا قطاع الطرق وكفوا أيدي الحكام المحليين المتنفذين الذين كانوا ينهبون المناجم، وحذروا قادة جيوشهم من سرقة الذهب ولإنعاش صناعة التنقيب أمر إمبراطور مغولي أربعة آلاف عائلة في شانغدونغ بالبحث عن الذهب بطريقة الشطف بالأوعية المعدنية.


ثانياً : 

 وفي القرن السابع عشر بات منجم لينغلونغ تحت سيطرة الخصي الشهير وي . شونغزیان Wei Zhongxian خسر وي، وكان في الأصل مجرما ومقامرا يانساء تنازل عن خصيتيه مقابل الحصول على وظيفة في البلاط الملكي. إذ كان التقليد السائد يحظر شغل العديد من الوظائف في البلاط الإمبراطوري لغير المخصيين. ولم يكن مسموحا لدائني وي بملاحقته إلى المدينة المحرمة (العاصمة الإمبراطورية). وحالما استقر في القصر، أنشأ صداقة مع الممرضة المكلفة بالعناية بولي العهد وعندما . أصبح الصبي إمبراطورا، وكان في سن الخامسة عشرة، بدأ وي بارتقاء سلم السلطة.

 

ثالثاً : 

اغتال وي المناوئين، وشيد المعابد والتماثيل لنفسه، واتخذ له لقب «تسعة آلاف عام، وهو معادل تقريبا في المكانة الرفيعة للإمبراطور الذي اشتهر بلقب «عشرة آلاف عام ووهبه الإمبراطور منجم لينغلونغ في العام 1621. وعمل على تشغيل المنجم مدة ست سنوات، ارتفع فيها إنتاج البلد من الذهب إلى أربعين ألف أوقية في العام. وعندما توفي الإمبراطور عمد أعداء وي إلى خنقه ونزع أحشائه. وانهارت الأسرة الحاكمة بعد سبعة عشر عاما، ومعها منجم لينغلونغ أيضا. كان الحكام الجدد من أسرة مانشو Manchu يبغضون التنقيب عن الذهب 04 كان لديهم اعتقاد بأن عروق الذهب هي عروق التنين، وأن استخراجها يعني تعطيل الفينغ شوي Feng Shui منظومة القوانين التي تحكم التناغم مع ا الفضاء المحيط. والأهم من ذلك أن أسرة مانشو كانت تخشى اندلاع الشغب بين ظهراني الشعوب التي احتلها الصينيون وكانت ترى أن الحصول على المعادن الثمينة قد يوفر المال الذي يساعد تلك الشعوب على الانتفاض. وقد أصدروا مرسوما يحظر التنقيب عن الذهب. وأعدموا كل من قبض عليه متلبسا بمخالفة هذا المرسوم. وهكذا استنزفت الخزائن الإمبراطورية مع توقف إنتاج الذهب. وانتزعت آخر سبائك الذهب من الخزينة الإمبراطورية في العام 1842، لأداء التعويضات إلى قوى الاحتلال الأجنبي - روسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان. وفي ضوء الحاجة الماسة إلى المال، نقضت الحاكمة الإمبراطورة الأم Dowager Empress) حظر التنقيب عن الذهب. وعاد الإنتاج السنوي إلى الارتفاع. وبحلول العام 1888 بانت الصين تنتج מוד سبعمائة ألف أوقية سنويا، مما جعلها في المركز الخامس عالميا في إنتاج الذهب من المؤكد أن المنقبين لم يتوقفوا عن التنقيب البتة. إذ مضوا إلى أمكنة أخرى تحريا لوجود الأسواق، وقد كتب أحد الموظفين البريطانيين في المستعمرات، وكان مقر عمله في بورما، وذلك في زمن سريان الحظر الصيني لأعمال التنقيب عن الذهب: «كانت أكبر نسبة على الإطلاق من إجمالي كمية الذهب المستخدم في بورما تأتي من الصين. إذ كانت تستورد في هيئة وريقات الذهب الرقيقة، وقد ضمت معا في حزم ،صغيرة وزن الواحدة منها نحو فيس Viss واحد».

رابعاً : 

ويعادل الفيس 3.6 رطل وتعتبر كمية كبيرة من الذهب بمقاييس كل القرون. وهذا محتوى حزمة واحدة فقط. كان الذهب يهرب خارج الصين على طول طرقات التهريب عبر الهيمالايا. وعندما أبطل حظر التنقيب عن الذهب، تحول الذهب مباشرة إلى أقرب الأسواق السوق المحلي. مثل هذه التحولات في الموقف الرسمي إزاء الذهب تكررت في العصر الحديث. لقد تغير موقف الصين الشيوعية من حيازة الناس للذهب من القبول إلى الرفض ثم إلى القبول مرة أخرى، وفق ما أملته تقلبات الأحوال. ومع هذا، كان لا بد أن يتبوأ منجم لينغلونغ مكانة رفيعة في ميثيولوجيا الحكومة الصينية. فقد استعاده الصينيون من عدو بغيض، هو اليابان، بعد أن وضعت يدها عليه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية. لقد اعتمدت في كتابة وصفي لمنجم لينغلونغ، وفي الكثير مما كتبته حول الذهب الصيني، على كتاب قيم عنوانه تاريخ التنقيب عن الذهب في جاويوان مع وصف الأحوال صناعة الذهب في جمهورية الصين الشعبية»، ويقدم هذا الكتاب تأريخا دقيقا بالإنجليزية والصينية. وضع هذا الكتاب جونغ رانتان Gong Runtan وهو من الخبراء المخضرمين في صناعة الذهب في شانغدونغ، ويبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما وجو فينغسان Zhu Fengsan وهو العقل الخبير الذي ساعد على الارتقاء بالصين إلى طليعة الدول المنتجة للذهب في العالم. هذا الكتاب يقدم، وفق معلوماتي الوصف الوافي للذهب الصيني باللغة الإنجليزية. 

خامساً : 

لا يغفل هذا المجلد شيئا، بدءا من استخدام الذهب في حبوب الدواء طلبا للخلود إلى عرض الخطة الخمسية التاسعة ويشدّ أسلوب الكتابة القارئ، كما في قصة مصير لينغلونغ زمن الحرب، عندما سيطرت اليابان على المنجم لم تكن الثلوج المتراكمة على جبل لينغلونغ قد ذابت بعد. وبعثرت الريح القارسة الأغصان والأوراق الذابلة في الهواء، وأحدثت صوتا عاصفا حادا. وفي الصباح الباكر احتشدت مجموعة من المزارعين الغاضبين، وقد جلبوا معهم العجائز والناشئة، وانطلقوا من مساكنهم صوب جبل لينغلونغ ودوت فرقعة البنادق غير بعيد والدفع الرصاص فوق رؤوس الحشد ومن بعيد كانت تشاهد أعمدة الدخان الكثيف تتصاعد في القرية، وراحت تتراكم على الطريق الترابي] 48).

 

وزحف سبعمائة جندي ياباني تدعمهم القاذفات إلى الهضاب واحتلوا المنجم، وعززوا دفاعات الجبل والبيوت الخرسانية   وحلقات الأسلاك المكهربة. وأقاموا سواتر للبنادق الآلية وخفروا المنجم بما يسميه الصينيون «الكلاب الذئبية Wolf. Dogs. وقد عاملوا المدنيين بوحشية، فكانت أجساد الصينيين الذين قتلوا في المجازر واستخرجت أحشاؤهم بالحربة، تعلق على أعمدة خطوط الهاتف القريبة من المنجم وكتب جونغ: «تحت وطأة العقب الحديد للغزاة اليابانيين، أصبح منجم لينغلونغ جحيما على الأرض مسكونا بالشياطين والوحوش.. والأرواح الشريرة مطلقة العنان، ومركز اعتقال وحشي يزداد ضراوة. وعاش عمال المنجم الحياة المأساوية التي يعيشها المهزوم». وفي غضون ست سنوات ونصف السنة استخرجت اليابان 290 ألف أوقية من منجم لينغلونغ. وتحفل الصفحات التي تتناول تلك القصة بنقمة جونغ. لقد رغبت في مقابلته، ولأنه حمو بانغ مين فقد كانت تعرف أين تجده في الساعة الثانية ظهرا والجو حار جدا، انتقلنا بالسيارة إلى فناء مجمع سكني رمادي اللون في قلب جاويوان، وتوجهنا إلى الطوابق العلوية. كان جونغ آنذاك في الخامسة والسبعين طلب مني الجلوس على مقعد أمام طاولة خفيضة عليها صحن كبير من البطيخ الأحمر المقطع. كانت الشقة السكنية صغيرة، لكن سقفها كان عاليا وكان نسيم يتدفق عبر الحجرات ذات الأرضيات المغطاة برخام التيراتسو كانت عرائش الأزهار البلاستيكية تتفتح بغير انتظام على أحد الجدران وجلس جونغ مستقيم الظهر، واستقرت يداه على ركبتيه. كانت بشرته صفراء وبدا جذابا. وقد جعل تسريحة شعره الرمادي المائل إلى الأحمر الحديدي مثل قصة شعر الجنود وارتدى عدسات مسنفرة   حجبت عينيه. لما وقع الغزو الياباني للبلاد كان عمره لا يتجاوز السنتين. لقد أجرى بحثا بغرض تقديم وصف لمنجم لينغلونغ، وذلك بالتحدث إلى الرجال الذين عملوا في المنجم.