ذهب الظل - الجزء الثالث

 

أولاً : 

لبرهة من الزمن كان هذا اعتقاد جميع من تحدثت إليهم - اتجهت الشكوك إلى اليونان أو إسبانيا أو إلى سلة عملات Currency Basket دولة ما، وقد بلغت مرحلة الإنعاش  . حينذاك أشارت إيدل تلي Edel Tally المحللة المالية لدى يو بي إس UBS إلى استبعادها أن تكون تلك الجهة مصرفا مركزيا كانت ترى أن السلطات الرقابية الأوروبية لم تكن تسمح بأن يقوم المصرف المركزي بتحويل الأموال إلى حكومته أو بشراء السندات الحكومية الصادرة عنها - وهي الإجراءات التي ستضطر تلك المصارف إلى اتخاذها للحيلولة دون تخلف الدولة عن سداد ديونها. إذا لم تكن تلك الجهة مصرفا مركزيا وإنما سلطة نقدية. لقد أشارت تلي بأصابع الاتهام أيضا إلى صندوق النقد الدولي. 

ثانياً : 

وهكذا تحولت الشكوك نحوه. يمثل صندوق النقد الدولي مصرف الملاذ الأخير في العالم. فقد أنقذ أيسلندا من مشكلاتها المالية، وكانت أولى حالات الانهيار المالي لجهة حكومية بعد اندلاع الأزمة المالية. مع ذلك، كان صندوق النقد الدولي يبيع ما لديه من الذهب من دون أن يحدث جلبة»، وفق صحيفة التلغراف .Telegraph. وفي خبر بعنوان «مبادلة ذهب سرية تثير الهلع في السوق (  ذكرت الصحيفة أن صندوق النقد الدولي كان يشكو من نقص حاد في السيولة ولم يمض إلا وقت قصير على استقرار الرأي بشان دور صندوق النقد الدولي، قبل أن يقوض بنك التسويات الدولية نفسه هذا الاحتمال فقد أذاع البنك الواقع في بازل أن الجهة التي أجرت مبادلة السبائك لم تكن صندوق النقد الدولي، ولم تكن أيضا مصرفا مركزيا بل كانت مصرفا تجاريا أو مجموعة من المصارف التجارية. إذا كانت الغاية من هذا الإعلان تهدئة السوق، فقد أخفقت المحاولة. كانت كمية 349 طنا كبيرة جدا بحيث يتعذر على السوق التصديق بأن مصرفا تجاريا واحدا استطاع أن يجمع تلك الكمية بمفرده.

ثالثاً : 

 لقد أصاب الحجم المحض للصفقة السوق بالذهول - ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» Wall Street Journal أن تلك الكمية تعادل ثلاثة أضعاف الذهب الذي اقتناه بنك التسويات الدولية قبل شهر واحد من الحادثة كانت كمية الذهب كبيرة جدا حتى بالنسبة إلى تجمع مصرفي، وظل السؤال المطروح: لماذا؟ من الجهة التي عدمت الموارد المالية بحيث اضطرت إلى أن ترهن ما لديها؟ يقول خبير استراتيجي رفيع في مجال المعادن مقره لندن: «الأمر مثير للريبة وربما يكون سيئا، معبرا بإيجاز عن حالة سوق السبائك التي كانت مزيجا من الحيرة والخوف. ومع تصاعد حدة الظنون والتخمينات، أثارت المسألة اهتمام لجنة محاربة احتكار الذهب Gold Anti-Trust Action Committee، وهي مجموعة تعتقد بوجود مؤامرة واسعة النطاق للتلاعب بسعر الذهب. كما الحال دائما، تحاط أنباء كل ما يتصل بالإجراءات المتخذة بشأن سوق الذهب بغلالة من السرية والمعلومات المغلوطة والهمز والنمز» وذلك وفق مقالة نشرتها لجنة محاربة احتكار الذهب على موقعها الإلكتروني. وقد وصفت عملية المبادلة بأنها «صفقة ثلاثية» Tripartite Transaction أجرى بموجبها مصرف تجاري أو عدة مصارف تجارية مبادلة مؤقتة Swap مع مصرف مركزي أو عدة مصارف مركزية، ومن ثم أجرى المصرف التجاري أو المصارف التجارية مبادلة أخرى مع بنك التسويات الدولية».

رابعاً : 

 لقد مثلت تلك الصفقة بالرسم البياني: المربعات والسهام الصغيرة، ثم تأملت فيه إلى أن انتابني الصداع. ولم أفهم تلك العملية إلى الآن، بيد أن لجنة محاربة احتكار الذهب وبنك التسويات الدولية على اطلاع بالسياق التاريخي للمسألة. في العام 2000 قاضی محام كلفته لجنة محاربة الاحتكار المصرف وسكرتير الخزانة الأمريكية (وزير المالية الأمريكي، ورئيس الاحتياطي الفدرالي (محافظ المصرف المركزي الأمريكي)، وسواهم أمام المحكمة المحلية في ولاية ماساتشوستس. وقد وجه إليهم تهمة التواطؤ لتحديد الأسعار والاحتيال في تداول الأوراق المالية والإخلال بالواجب الاستثماني Fiduciary Duty وأيضا بتجاوز سلطاتهم التي خولهم إياها القانون كان الطرف المدعي ريجينالد ها و Reginald Howe، وهو محام ومستثمر كان يمتلك أسهما في بنك التسويات الدولية. وقرر بنك التسويات الدولية تسييل ملكية الأسهم العائدة إلى الأفراد من القطاع الخاص)، وادعى هاو أن السعر الذي عرضه البنك لاسترداد الأسهم كان دون القيمة الحقيقية لما يمتلكه البنك من سبائك الذهب، وأن ذلك كان جزء من خطة متعمدة للضغط على سعر الذهب. وكان دافع الحكومة في الضغط على سعر الذهب إخفاء أحد المؤشرات على معدل التضخم الأمريكي، وباعتبار أن الذهب كان مقوما بالدولار، سيؤدي ارتفاع سعر الذهب إلى الكشف عن واقع الدولار الفعلي ومع ها و أخفق في تحقيق غاياته الكبرى فإن محكمة أوروبية قضت بأن ما حصل عليه، وغيره من المستثمرين من بنك التسويات الدولية أقل من حقوقهم المخولة لهم بموجب ملكية الأسهم فيه، وأصدرت أمرا للبنك بأن يدفع لهم مزيدا من المال. بالعودة إلى المبادلة المؤقتة. فقد انخفض سعر الذهب بمقدار 80 دولارا متأثرا بوابل المخاوف غير المنقطعة، وذلك عندما أعلنت صحيفة فاينانشال تايمز Financial Times في نهاية الشهر، عن التوصل إلى حل اللغز. وذكرت الصحيفة أن المبادلة كانت من بنات أفكار بنك التسويات الدولية من دون سواه. كان البنك يبحث عن طريقة للاستفادة ماليا من احتياطياته الكبيرة من الدولار، واقترح إجراء مبادلة الذهب مع بعض المصارف التجارية الأوروبية التي كانت في حاجة إلى الدولار. وقبل أكثر من عشرة مصارف أوروبية بمبادلة احتياطياتها الذهبية بالنقد. وقد ذكر أحد المصرفيين أنه من حين إلى آخر يرغب بنك التسويات الدولية في تحقيق عوائد مثلى على احتياطيات العملة التي لديه».

خامساً : 

 ووفقا لما نقلت بعض المصادر لصحيفة فاينانشال تايمز كانت المبادلات المؤقتة في مصلحة كل الأطراف. لنعاين هذه المسألة. لو كانت المبادلات عملا حميدا محضا، فلماذا استغرق الأمر وقتا طويلا جدا للحصول على تفسير بنك التسويات الدولية؟ ذلك أنه عندما تتسلل سبائك الذهب خلسة عبر أوروبا وصولا إلى مصرف سويسري مجهول الهوية تهيمن عليه مجموعة من مسؤولي الخزانة الأجانب، فلا غضاضة أن نتحرى وجود تفسير آخر غير مقولة إن ما حدث كان في سياق العمل التجاري المعتاد. لكن ثمة تفسيرا آخر. بعد اندلاع الأزمة المصرفية في العام 2008 دفع احتمال انهيار المصارف بالجملة الجهات الرقابية الأوروبية إلى اعتماد متطلبات جديدة لرأس المال لدى المصارف التجارية. كان عديد من تلك المصارف يمتلك كثيرا من سندات الدول التي ساءت تصنيفاتها الائتمانية وللتحقق مما إذا كانت المصارف التجارية تلتزم بالمعايير الجديدة اعتزم المصرف المركزي الأوروبي إجراء عمليات تدقيق محاسبي عرفت باسم «اختبارات التحمل الإجهاد Stress Tests كان من الشكوك المنطقية الدائرة آنذاك حول مبادلات الذهب بالدولار النظر إليها باعتبارها حيلة الغرض منها حشد الأموال النقدية داخل النظام المصرفي الأوروبي بغرض تحسين ميزانيات المصارف الخاصة قبل إخضاعها لاختبارات التحمل .. كانت أوضاع المصارف التجارية مقلقة جدا مما حدا بمصارفها المركزية إلى الامتناع عن إبداع المال لديها، والتحول عنها إلى بنك التسويات الدولية لإيداع فوائض أموالها، كان ذلك مصدر الأموال الفائضة، لقد وفرت المبادلة لبيت المال الدولي ) طريقة لتجنب الأزمة التي كانت ستعقب، بلا شك، حالات عدم اجتياز اختبارات التحمل. وكان الجمهور وحده الضحية... وكذلك من يملكون الذهب فعلا لم يكن الذهب المبدل في عملية المبادلة المؤقتة) ملكا للمصارف التجارية. ذلك أن تلك المصارف اقترضته وغالبا من عملائها أنفسهم. ولو أن هؤلاء العملاء طلبوا استرداد ذهبهم، لما وجدوا الذهب لدى تلك المصارف. *** حصلت المصارف التجارية على الذهب من مصدرين: اقترضت بعضه من المصارف المركزية، أما المصدر الآخر، وهو الذهب الخاص بعملائها، فقد جاء من حسابات غير مخصصة» Unallocated Accounts. إن الذهب المودع في الحساب غير المخصص، وعلى خلاف الذهب المودع في الحساب المخصص لا يكون مملوكا لصاحبه بصفة مستقلة. وللمصرف أن يتاجر به إلى أن يطلب العميل استرداده. في عملية المبادلة التي تمت مع بنك التسويات الدولية، كانت المصارف التجارية تحصل على النقد لقاء ذهب الآخرين، وتستخدم المال لتعزيز وضعها المالي المتداعي لم تكن تلك المناورة مخالفة للقانون، لكنها ربما كانت أكثر دهاء مما ينتظر من المصارف التجارية. لقد استخدمت المصارف التجارية الذهب مثل استخدامها الودائع النقدية كانت تلك المصارف تدين بالذهب إلى مالكه باعتباره التزاما عليها من ضمن الالتزامات الناشئة عن الودائع الأخرى. لكن إذا كان المصرف في ضائقة تجعل بنك التسويات الدولية يضع يده على الذهب.