كيبالي

 

أولاً :

على أحد الجانبين المتنافسين كانت كتائب فتاكة مسلّحة جيدا تمتلك المورد التجاري   الأول في العالم أي الذهب. وعلى الجانب الآخر كان قمة شركة تنقيب متنفذة. قصة كيبالي تجسد تحول الذهب إلى عنصر اضطراب ووحشية، وتصور الحظوظ العظيمة لمن يوفق بالعثور عليه. لقد احتشدت فيه كل شجون الإنسانية وإثارتهاء بدأت تأليف هذا الكتاب في يوم من أيام فبراير، بلندن. سافرت جوا إلى إنتيبي Entebbe بأوغندا حيث قضيت الليلة في فندق على شاطئ بحيرة فيكتوريا، أقاوم سحابة من البعوض كانت تقتات على أذني. أخرجت کتاب بيتر برنشتاین Peter Bernstein ، وبينما كنت أقلب ت الأول أتيت على ذكر ملكة سبأ وهي تقدم الذهب إلى سليمان. بدأت القراءة، بيد أن النص توارى خلف حجاب الحشرات، ولذلك استسلمت وغطيت رأسي وحاولت أن أخلد إلى النوم. كنت في طريقي إلى اكتشاف يفوق مناجم الملكة الأسطورية ثراء. كان الجميع في عالم الذهب يتحدث عن كيبالي Kabali ، وهو منجم يخطف الأنفاس، يقع في إحدى أكثر الدول أمية في العالم - جمهورية الكونغو الديموقراطية.


ثانياً :

 ولهذا المنجم، كالكونغو نفسها، ماض أليم ومستقبل عقدت عليه الآمال بسبب ثرواته الطائلة. في القرن الأخير من تاريخه جسد حقل الذهب كيبالي قصة الاضطهاد والحرب، والمال الموروث والحقوق المكتسبة والمؤسسات التجارية التي تنهش بعضها بعضا لقد اجتمعت هناك التكنولوجيا المبهرة مع الفقر المدقع  . لقد اخترت أن أختم كتابي بالحديث عن هذا المنجم لأنه يختصر حس الإثارة الكامن في فورة الذهب المعاصرة ووقعها السريع ووطأتها الشديدة، وأيضا لأن قصته تجسد تحول الذهب إلى عنصر اضطراب ووحشية وتصور الحظوظ العظيمة لمن يوفق بالعثور عليه. لقد احتشدت في كيبالي كل شجون الحالة الإنسانية وإثارتها. عدت في الصباح إلى مطار إنتيبي وانحشرت داخل طائرة سيسنا كارافان Cessna Caravan مكتظة بفريق من محللي أسهم شركات التنقيب الذين غلبتهم الحرارة المفرطة. كانوا قد عادوا من فورهم من رحلة شاقة إلى مناجم الذهب في ساحل العاج ومالي. وباستثناء فتاة مبتهجة لا تبدو عليها أمارات الإعياء، قادمة من كاليفورنيا، فقد أصابهم الوهن جميعا، وهيمن عليهم الشعور بالنزق. وهكذا أقلعت طائرتنا نحو الدورادو Eldorado.


ثالثاً :

 يقع مشروع ذهب كيبالي Kali Gold Project في الشمال الشرقي من الكونغو، وهو منطقة مزقتها الحروب، واستطاعت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أن تجلب إلى بعض نواحيها السلام كان جيش الرب للمقاومة   وهو جماعة تمارس القتل الممنهج قوامها جنود أطفال أدمنوا المخدرات، ومقرها أوغندا، أعمال الخطف والقتل في الإقليم عندما توجهنا إلى تلك المنطقة في مطلع العام 2011 أنهينا إجراءات العبور الرسمية لدى السلطات الكونغولية في بونيا Bunya وهو مطار تنتشر فيه قواعد الرشاشات الآلية التابعة لقوات الأمم المتحدة. وتسلم مني شيخ كبير جالس إلى طاولة في بناء المطار رسوم الدخول وقدرها 90 دولارا نقدا، ومرر جواز سفري عبر الطاولة إلى موظف آخر ختم جوازي لدخول الجمهورية الديموقراطية (). استغرقت الرحلة بالطائرة من بونيا إلى كيبالي عشرين دقيقة. يربض الموقع المقصود في واد موحش ثلمت وجهه آثار دروب الحفر. ومن نقطة إشراف قائمة أعلى التلة بجوار برج الهاتف الخلوي استطعنا أن نشاهد الأكواخ المتداعية في القرية الواقعة على المنحدر البعيد. كان هناك منصة حفر تهدر على سفح التلة. وكانت الشمس الاستوائية تضرب بأشعتها مخترقة طبقة الغيم الرمادي الرقيق. لقد تغضن الطين في قعر بحيرة جف ماؤها، وتصلب بفعل الحرارة كانت تقبع تحت السطح المتغضن عشرة ملايين أوقية من الذهب. اكتشف المنقبون الأستراليون الذهب في العام 1903، داخل تشكيل جيولوجي امتداده مائة ميل يدعى حزام الحجر الأخضر    لكيلو موتو Kilo Moto. كانت الكونغو آنذاك ملكا شخصيا لملك بلجيكا. وأنتجت المناجم، إلى أن نالت الكونغو استقلالها في العام 1960 ، نحو 12 مليون أوقية. وحولت الحكومة هذه المناجم بعد الاستقلال إلى شركة مملوكة للدولة. وبذلت جهودا حثيثة لتشغيل المناجم، فبحثت عن شركاء أجانب. كانت شركة باريك Barrick تشغل منجما بالقرب من موقع الاستكشاف الحديث، إلى أن اندلعت الحرب. غزت قوات رواندا وأوغندا في العام 1996 الكونغو لتنحية الحاكم المستبد موبوتو سيسي سيكو Mobia Sene Seo.

رابعاً :

 وبعد فرار موبوتو حاول خلفه طرد القوات الأجنبية التي انصرفت إلى نهب موارد الكونغو الغنية وقعت في أعقاب ذلك المجازر مما استدعى تدخلا من قوات زيمبابوي وبوروندي وأنغولا وناميبيا.

فترة الانفلات التي عرفت بالحرب العالمية الأولى لأفريقيا اجتاحت قوة قوامها 35 ألف جندي أجنبي هذا البلد، وأعملت فيه القتل والاغتصاب والنهب والسلب. لقد نهبت الألماس والنفط واليورانيوم، بل والببغاوات أيضا. وقتلت تلك القوة أعدادا كبيرة من وحيد القرن لأجل قرونه. وتدفقت غنائم الحرب خارج الكونغو. وفي العام 1998 وصل الصراع إلى كيبالي. احتل الجنود الأوغنديون في أغسطس 1998 حقل الذهب ). كانوا قد خططوا لإدارة المناجم باعتبارها منشآت صناعية، لكنهم وجدوا المهمة عصية عليهم. فلجاوا إلى التنقيب الحرفي) - ويتم هذا النوع من التنقيب أساسا بتهشيم الصخر إلى أجزاء صغيرة باستخدام المطارق ،والفؤوس وأحيانا المتفجرات، وانتزاع الفلز باليد. وقد جندوا المنقبين المحليين لهذا العمل، وفرضوا عليهم إتاوات لقاء دخول الموقع أو جمع قطع الفلز. كانوا يكيلون الضرب للمنقبين الذي امتنعوا عن العمل. وأجبروهم على تفجير الأعمدة الصخرية الغنية بالذهب التي تركت مكانها لتأمين استقرار المنجم. وبالنتيجة انهار المنجم، وأودى بحياة مئات المنقبين الذين علقوا داخله. وأدى الانهيار إلى تدمير المضخات. وهكذا اجتاحت المياه المنجم وقعر الوادي ،فغمرتهما ، وشكلت البحيرة التي كان قعرها الجاف لايزال علامة مميزة للموقع عندما زرته. وساءت الأمور في العام 2002 عندما أجبرت الضغوط الدولية أوغندا على بدء سحب قواتها من الكونغو وبانسحاب تلك القوات زحفت الميليشيات المتمردة إلى حقل الذهب، وإضافة إلى ارتكابها الأعمال الوحشية شنت حملة ترويع أذكتها الأحقاد القبلية. في إحدى المجازر أجبروا النسوة ومعهن الأطفال على حفر قبورهم والمرزبات    . كانت بأيديهم. ثم ربطهم خاطفوهم معا وقتلوهم بالمدى ) ظروف العمل في المناجم مروعة وقضى المنقبون اختناقا في القنوات بعد تعطل أنظمة تدوير الهواء المستخدمة في التهوية. كذلك كان تعطل المضخات يعني على المنقبين الخوض لأميال عبر المياه التي بلغ مستواها الصدر في قنوات ضيقة   للوصول إلى مسارب التنقيب ).


خامساً :

 وعند بلوغهم تلك المنطقة، كان الرجال يستخدمون المزالج الحديد والمطارق العادية لسحق الصخور واستخراج الفلز من الحفيرات وأوقدوا النار «لتطرية» الصخر. وحققت المناجم عوائد كبيرة للغزاة وانتزع الأوغنديون ما قيمته تسعة ملايين دولار من الذهب من المنطقة في أربع سنوات من الاحتلال). وفاقهم خلفهم (من جاء بعدهم في أعمال النهب حيث كانت المجموعة المسلحة تبيع ما قدره ستون كيلوغراما من الذهب في الشهر، أي ما قيمته ثلاثة أرباع مليون دولار). ذلك أن الظروف قد تغيرت وبعد ثلاث سنوات من السبات عاد سعر الذهب إلى الارتفاع. وحصل الأوغنديون على سعر قدره 290 دولارا للأوقية من المشترين السويسريين وحصلت الميليشيا على سعر أعلى قدره 400 دولار كان سعر الذهب قد دخل مرحلة الارتفاع الأبرز في تاريخه أي تلك الحالة الصعودية التي دامت عشر سنوات وأطلقت شرارة فورة الذهب العالمية. كان ذلك سيفا ذا حدين بالنسبة إلى الناهبين. إذ وفر ذلك لهم مزيدا من الأموال في الأجل القصير، بيد أنه أدى، في الأجل الطويل، إلى جذب انتباه القوى الساعية إلى الحصول على الذهب لنفسها. كان من أولئك أحد أباطرة المال والثروة، وهو أفريقي أسود. **** كان السير سلام جونا Sir Sam Jonah منقبا عن الذهب شهيرا، بدأ حياته المهنية في سن المراهقة فاشتغل عامل منجم في غانا ودرس إدارة المناجم في بريطانيا، ولما بلغ الحادية والثلاثين تبوأ منصب الرئيس التنفيذي لشركة أشانتي جولد فيلدز Ashanti Gold fields وهي شركة تنقيب غانية، واستمر في ذلك المنصب ثمانية عشر عاما، واستطاع في عقد  ) واحد فقط زيادة إنتاج أشانتي من 240 ألف أوقية إلى 1.6 مليون أوقية سنويا، فجعلها في عداد أبرز شركات التنقيب عن الذهب، واستطاع في العام 1996 إدراجها في بورصة نيويورك. بيد عاني أيضا الإخفاقات. فقد كاد رهان خطأ على سعر الذهب في العام 1999.