نهر الذهب

 

نهر الذهب

أولاً :

كان الذهب غاية الجنود البيض، وقرر الإنكا أن يعطيهم كل ما أرادوا، ظناً منهم أن ذلك كفيل بعودتهم من حيث أتوا، وهكذا اندلعت إحدى أغرب مواجهات القوى المتحاربة في التاريخ، على إحدى الجانبين ملك – بجيش قوامه 80 ألف مقاتل متمرس – وفي الجانب الآخر ثلة من الغرباء، بعضهم مرضى، يبعدون آلاف الأميال عن أي مصدر للعون.

جاء الإسبان مجهزين جيداً لتنفيذ جريمة السرقة التي اشتهر بها القرن السادس عشر، لقد قضوا على إمبراطوريتين في ضربة واحدة تقريباً، وقد امتلكوا سلاح الدمار الشامل الذي استخدمه الخيالة، ما عرف بفولاذ طليلطة Toledo steel، كانت السيوف صلبة لدنة، وكانت حادة كالشفرة، كانت ضربة واحدة منها، تكفي لقطع الرأس، وبلغ وزن الخيل وخيالها المسربل بدرعه الكامل ثلاثة أرباع الطن، كان هذا العتاد الهائل يدوي كالرعد مندفعاً بسرعة عشرين ميلاً في الساعة، فيحتشد الوزن برمته في نقطة فولاذية مدببة عند رأس حربة طولها عشرة أقدام، لقد استطاع الإسبان حشد مث هذه القوة المتقدمة بالاستعانة بتقنيات حديثة في مجال الإبحار والملاحة، وكانت لديهم ذريعة لفتوحاتهم القادمة، إدخال الناس في دين الرب، وكتب كريستوفر كولومبوس عندما شرع في رحلته إلى العاهلين اللذين مولا حملته أنه سيسعى إلى تعتنق شعوب كثيرة ديانتنا المقدسة، لكنه لم يغفل عن ذكر الذهب، فقد أشار إليه 114 مرة، مقابل الإشارة إلى الرب 26 مرة.


ثانياً : 

بلغ هرنان كورتيز سواحل يوكاتان في مطلع عام 1519، وفي خميس الأسرار (خميس الصعود) نزل بالقرب من مدينة تعرف اليوم بفيراكوز، واعتقد حاكم الأزتيك مونتيزوما أن المغامر الأسباني كان الإله كويتزالكوتال، الأفعى المجنحة، وأرسل مبعوثيه لاستقباله، لكن كورتيز أطلق النار عليهم، وصف الأزتيك بندقية الأرقيبوس عندما رأوها بأنها :"يخرج من أحشائها شيء مثل الكرة الحجرية، مطلقاً الشر ووابلاً من النيران"، وبحلول نوفمبر كان الإسبان قد نزلوا في بتينوشتيتلان، المدينة المكسيكية الخلابة القائمة على جزيرة.


ثالثاً : 

وكتب الجندي الإسباني بيرنال دياز bernal diaz :"ونحن نحدق في هذه المناظر البديعة، لم نحر ما نقول، ولم نصدق أن ما نراه حقيقة، لأنه كان ثمة الكثير من المدن على الأرض، من ناحية، وفي البحيرة كان ثمة الكثير أيضاً، وازدحمت البحيرة نفسها بقوارب الكنو، وكان على المجازة العديد من الجسور التي تفصل بينها مسافات منتظمة، ومثلت أمامنا مدينة مكسيكو العظيمة، ونحن لم يصل عددنا إلى أربعمائة جندي".

رابعاً :

وبحلول شهر يونيو من السنة التالية، قضى مونتيزوما نحبه، وادعى الإسبان أنه مات تحت وابل من الحجارة ألقاها عليه قومه، ولعل الإسبان قتلوه، إذ أغرتهم كنوزه، وتصف مخطوطة فلورنتين، وهي اثنا عشر مجلد تعود إلى القرن السادس عشر، وتضم روايات المكسيكيين الأصليين عن الغزو الإسباني، كورتيز وعشيقته وهما يدخلان الخزنة الملكية :

كانا عندما دخلا مجمع الكنوز كمن بلغ أعتاب الفردوس، راحا يبحثان في مكان تتملكهما شهوة التملك، ذلك أنهما، أجل، استحوذ عليهما الطمع، ومن ثم أخذا كل مقتنيا مونتيزوما الخاصة، متاعه الخاص، وجله من الأشياء الثمينة، أطواق ذات أحجار غليظة، ولفائف للذراع من ريش الكويتزال، وأسوار من الذهب، وأربطة ذهبية بأغطية للركب، وخلاخل للكحل ذات أجراس ذهبية صغيرة، والتيجان الملكي واللباس الملكي جميعاً، بأعداد لا تحصى، وكل أشيائه المخصصة له.

وخلبت أخبار هذه الكنوز ألباب المغامرين الإسبان، وكان منهم قاطع طريق أمي اسمه فرانسيسكو بيزارو، كان ابناً نغلاً لكونويل إسباني وامرأة ريفية معدمة، وقد هجرته أمه، ولعلها كانت خادمة، على عتبات إحدى الكنائس، ونشأ في كنف أقربائه، وكن ابن عمه بعيد القرابة لكورتيز، في العام 1513 رافق المستشكف، فاسكو نوينوز دي بالبو إلى المحيط الهادي، وبعد ست سنوات خان كفيله وولي نعمته، فاعتقل بالباو وكان في الطريق للاجتماع بعدوه، وهو خصم اتهمه بارتكاب جرائم حق تجاه الملك، وقطع رأس بالباو بعد أن دفع ببراءته إلى النهاية، وحصل بيزارو على مدينة بنما، مكافأة لصنيعه، وقد حكهما حتى عام 1523م، وفي العام التالي انطلق في حملته بحثاً عن الحضارة العظيمة التي سرت شائعات وجودها في الجنوب، وبعد سنتين انطلق في حملته الثانية، وليس ثمة ما يماثل ما وقع من أحداث لاحقة حيث الهجمة الجنونية وأعمال الترويع، عندما صعد بيزارو وعصبته قليلة العدد إلى الحضن الجبلي، كانت المملكة المفقودة في حكايات الخيال – مبهرة ونائية وغريبة وساحرة. كان بيزارو عدو هذه المملكة، نذير جشع ما كان ضحاياه قادرين على فهم أسبابه البتة، ومع بيزارو  تحولت شهية القارة الأوروبية للذهب نحو الأنديز.

خامساً : 

يستخدم اسم الإنكا للإشارة إلى شعب إمبراطورية البيرو وقائدها، بدأ توسع الإنكا من وادي كوتزوكو عام 1438 عندما غزا قائد عسكري محنك يدعى باتشا كوتي جيرانه، كان أول إنكاسي يبسط نفوذه ما وراء كوتزكو، وهو الذي بنى ماتشو بيتشو، المدينة المعلقة على حافة الجبل إلى الشمال الغربي من كوتزكو بثلاثة وأربعين ميلاً، وكانت إقطاعته الخاصة، وواصل ابنه توباك التوسع، وبحلول العام 1471 بات يحكم إمبراطورية امتدت عبر الإنديز لمسافة 3 آلاف ميل.

تطورت ثقافة سكان الأنديز وتطور مظهرهم عبر عقود من العيش في الجبال، لقد امتازت صدورهم ورئاتهم بكبر حجمها بسبب استنشاق هوء المرتفعات العالية الذي ينخفض مستوى الأكسجين فيه، ويكثر في مدرجات الجبا المنحدرة نبات الترمس، وهو محصول غذائي، وكانت القنوات تحمل المياه إلى الأراضي المزروعة، ولم يعرف الإنكا النقود، فقد  استخدموا نظاماً قائماً على تبادلية الواجبات، وتخللت ذلك احتفالات منها شرب بيرة تشيتشا chicha إلى حد الثمالة. كنت الثروة تتجسد في التحكم في العمل البشري وملكية الأرض وقطعان اللاما المدجنة، وكانت الإمبراطورية معزولة من أحد جانبيها بأعظم محيطات الأرض، وبكبرى غاباتها من الجانب الآخر، وإلى الجنوب امتدت الصحاري ولا شيء سواها، ومن ناحية الشمال فتح الإنكا كل الأصقاع، لقد حشد قادة جيوش الأنكا كل مئات الآلاف من الرجال المحاربين، وحركوا تلك الجيوش بسرعة مذهلة على امتداد 14 ألف ميل، من المسالك والطرق التي حيرت طلائع الأوربيين، عندما شاهدوها عياناً، وكتب هيرناند بيزارو أخو بيزارو الغازي، إن مثل هذه الطرق المذهلة لم تعرفها الدول المسيحية ومنها بلدنا، ووصف إسباني آخر رحلة صعود مروعة أعلى "سفح جبل خاطف للأنفاس، بالنظر إليه من أسفل، كان يبدو أن الطيور يتعذر عليها ارتقاؤه جوا بالتحليق، فما بالك بالرجال الذين كانوا على صهوة الجياد وهم يتسلقون مسيرا. وخفت مشقة الطريق بالصعود في دروب متعرجة.، كان الطريق الملكي الرئيس محاذيا للأنديز، امتدادا من كولومبيا إلى تشيلي، وثمة طرق رئيسة ساحلية محاذية للمحيط الهادئ، وكانت ثمة مسالك تربط بينهما.


سادساً : 

وقد استخدمت في الإنشاءات العظيمة مثل ساسكاي أوامان sacsayhuman،  وهو الحصن الهائل القائم أعلى قمة كوتزو، حجارة ضخمة رصفت بعناية فائقة، لقد عرفوا النسيج والسراميك والعدد البرونزية والريش النفيس والفضة والحجارة النادرة، وقد نقبوا عن الذهب وصنعوا الحلى الذهبية، واستطاع جراحوهم فتح فجوات في الجمجمة لإخراج السائل الناتج عن جروح الرأس، ووصل معدل البقاء على قيد الحياة 80 في المائة.

لقد اعتقدوا أنهم فتحوا العالم المتحضر برمته، وانصرف بيزارو للبحث عنهم.