منجم لينغلونغ

 

أولاً :

كان يتعين على الصين كي تصبح في طليعة الدول المنتجة للذهب في العالم أن تطوع عداء الأيديولوجيا الشيوعية المتأصل لمادة تعتبر الأساس للثروة الشخصية». بعد انغماس في أعمال الاستكشاف استمر عشر سنوات، تحولت الصين من دولة هامشية في إنتاج الذهب إلى أولى الدول المنتجة له في العالم، فتفوقت على جنوب أفريقيا في العام 2007، كانت الصين تشتري الذهب أيضا. وفي العام 2012 توقعت شركة الاستشارات الرائدة عالميا المتخصصة في المعادن الثمينة (شركة جولد فيلدز لخدمات المعادن)   التي تملكها تومسون رويترز أن تبلغ مشتريات الصين الخاصة والحكومية من الذهب نحو ألف طن ذلك العام، وسيجعل منها هذا المعدل الاستهلاكي أكثر الدول شراء للذهب، متقدمة على الهند التي ظلت إلى ذلك الحين تحتل المركز الأول عالميا. تعتبر قصة الذهب الصيني حكاية الدولة الصينية نفسها - حكاية تحولها من دولة منطوية على نفسها، يسيطر عليها رهاب الأجانب ومن دولة متخلفة تكنولوجيا، إلى منظومة لتوليد الثروة. لدى الصين عشرة آلاف منجم ذهب أو ربما ستون ألفا. هذه هي الحقيقة إذ يبدو أن لا أحد يعرف الرقم الفعلي. فالذهب الصيني هو حالة شعار، بقدر ما هو صناعة قائمة بذاتها، وليست بعض المناجم إلا مجرد عائلة واحدة عدتها أوعية معدنية للبحث عن الذهب وواجهة نهرية آخرون كانوا يستغلون جيوب الفلز الكبيرة الواقعة بين بورما وتعرف اليوم بميانمار والحدود المنغولية. كان الإنتاج الإجمالي يتجاوز 300 طن من الذهب سنويا.

ثانياً :

 وأردتُ معاينة هذه المناجم من كتب، خصوصا منجم لينغلونغ الأسطوري، فسافرت جوا إلى يانتاي Yantai الواقعة على البحر الأصفر. وصلت العاصفة الاستوائية ميري Meari إلى الساحل وضربت شبه جزيرة شاندونغ ليلة وصولي ورشح المطر عبر العوازل المطاطية غير المحكمة المثبتة حول النوافذ، وانطفأت الأنوار ووقفت عند نافذتي في الطابق الثامن والثلاثين ورحت أحدق خارجا استطعت رؤية الأضواء الخلفية للسيارات تزحف على الطريق الساحلي، وهذا كل ما رأيته. في الصباح كان كل شيء يتلالاً في الهواء البارد المنعش واندفعت طبقات من الغيوم السوداء عبر السماء البراقة محدثة زخات مطرية متلاحقة تناولت فطوري في حجرتي تنتابني مشاعر السعادة وأنا أفكر في زيارة منجم الذهب القديم، ونحيت الصينية جانبا وأدرت ناظري إلى كنزي الثمين - كتاب أصفر من القطع الكبير يتناول مناجم ذهب شاندونغ واستقر نظري علي صورة أحد وزراء عهد الإمبراطورية منطلقا في رحلة إلى لينغلونغ في العام 01007) كان يمتطي صهوة حصان أشهب وكان يجرجر ذيول كابه   الذهبي خلفه راح الإمبراطور يراقب الوزير بينما كان يمضي في طريقه. وتتهادى غير الغابة حاشية من عمال المناجم المحملين بالأرفاش والسلال وحقائب الأدوات. وفي العاشرة صباحا رن هاتفي الخلوي ومضيت إلى صالة الفندق المقابلة الأدلاء الذي سيصحبونني في الرحلة. لقد جاءوا بسيارة بنفسجية اللون صغيرة الحجم، وتلاقت السيارة كومة من النفايات التي خلفتها العاصفة أمام الفندق ثم توقفت فاحتلت حيز موقفين داخل المرآب. نظرت نحوي من وراء المقود سيدة ضخمة تبدو عليها أمارات السرور، وتدعى بانغ مين Pang Min كانت المقاعد الخلفية ملأى بلعب الأطفال. وقد حشر بينها فينغ تاو Feng Tao، وهو جيولوجي متخصص في مجال الذهب، ظهرت عليه علامات الوقار، وقد انتقل جوا من بكين ليكون مترجمي الفوري. تعرفتُ على فينغ عبر وسيط ،قدمها، وقد بينت لي بنبرة حازمة، أنه من دون مثل هذه الوساطات ستوصد أبواب الصين بكاملها أمامي، وتحديدا في موئل صناعة الذهب في شانغدونغ العريقة التي تضرب الفوضى فيها أطنابها تدين بالغ مين نفسها بالفضل لهذه الوساطة التقديمية. ولذلك فقد بينت فينح بجلاء أن مبلغ أتعابها اليومية المرتفع يجب اعتباره أمرا نافلا، بحيث يقبل من دون مساومة. قلت: لا بأس، لكننا بحاجة إلى سيارة أكبر حجماء، فيما رحت أحشر نفسي في المقعد الأمامي. وأجابت فينغ: أجل لقد وافقت [أي بانخ] على استبدالهاء. وانطلقنا من الفندق وقد بدت علينا علامات العزم والجدية. أعقبت ذلك نصف ساعة قضيناها نجوب بحماس الشوارع المهجورة المحيطة بالفندق أهلت الحكومة المحلية (البلدية)، وقد أنعشتها عوائد الذهب، وتوقعات النمو، رقعة شاسعة المساحة بالطرقات العامة خماسية المسار، وحديقة على ضفة النهر، وملعبين رياضيين دوليين، ومركزا للمؤتمرات كانت مواقف السيارات خاوية. ولم يكن هناك أي نشاط في الملعبين الرياضيين. لقد امتدت الشوارع أميالا عبر أرض خلاء إلا من شجيرات خفيضة، ولحسن الطالع لم تكن قمة ازدحامات مرورية، بحيث إن إيقاف بانغ مين للسيارة بشكل مفاجئ في وسط هذه الفلاة الإسمنتية لم يعرقل طريق أحد خلفنا أخيرا، تدبرنا الخروج من تلك المنطقة، وحصلنا على سيارة أكبر حجما، ومضينا باتجاه الغرب عبر الأرياف المخضلة   لمشاهدة منجم لينغلونغ الشهير. سنويا، يقع منجم لينغلونغ ضمن الطبقة الجرانيتية غير المنتظمة في شبه جزيرة شاندونغ، وهو حقل الذهب الشهير في الصين. ويحتمل وجود المئات من مناجم الذهب الأخرى التي تتخلل الهضاب المجاورة بمسارب ضيقة خطرة يعود عديد منها إلى قرون خلت، وهي صغيرة الحجم. تنتج الصين أكثر من 300 طن من الذهب ومع ذلك لا يوجد فيها منجم كبير واحد تلخص قصة إنتاج الذهب الصيني حكاية تحول الصين. كان يتعين على الصين، إذا أرادت أن تصبح أعظم الدول المنتجة للذهب في العالم أن تطوع عداء الأيديولوجيا الشيوعية المتأصل لمادة تعتبر الأساس للثروة الشخصية تمثل قصة لينغلونغ حكاية تغير الآمال والأحوال المادية بفعل التحول الذي طرأ على الدولة الصينية. ومع التغير الذي طرأ على الدولة، كذلك تغير موقفها من التنقيب عن الذهب وبعيدا عن نظرة الشك إلى الذهب باعتباره رمزا للثروة الخاصة التي تهدد القيم الشيوعية المثلى وصلت الصين إلى اقتناع، تعكسه احتياطياتها المتنامية من سبائك الذهب، مفاده أن الذهب قد يكون أداة تحوط نافعة في عالم الدولار المتقلقل.

ثالثاً :

 كانت الأمطار تأتي كل صباح وتمضي زاحفة من اتجاه البحر في غلالات طقسية سوداء كثيفة، تطرق على سقف السيارة، ثم تحملها الرياح بعيدا بسرعة خاطفة. وكان على امتداد الطريق أشجار قلعت من جذورها وغادرنا الطريق الرئيس ومضينا صعودا عبر فتحة في الهضاب لقد أرخت أشجار الصنوبر ظلالها على سفوح الهضاب وهدأت العاصفة، وتلاشت قمم المنحدرات الوردية وسط الضباب ومرت سيارتنا بالقرب من مجموعة بيوت صفراء باهتة ثم بلغنا المنجم الشهير. 

رابعاً :

كان ثمة معسكر مكون من أبنية بيضاء يقوم مقابل الجبل تركنا السيارة في المرآب وصعدنا راجلين وأشارت بانغ مين إلى أعلى سفح الهضبة نحو الموضع الذي اخترق فيه النفق. الرئيس الصخر. لم يوح المشهد بوجود موقع اصطناعي، بل كان أشبه بمنظر طبيعي صيني رسم على الفيفة من الرق. تقول الأسطورة إن نهرا كان يتدفق في العصور القديمة نحو السماء من بستان الدراق الذي تملكه سيدة الغرب القديمة العظيمة   إلى إحدى القمم في هضاب لينغلونغ كان النهر يغذي الجداول التي انحدرت عائدة أسفل الجبل، وتجمعت في بحيرة في أحد الأيام اكتشف صياد أن البحيرة تذخر بالأسماك الذهبية. كانت الأسماك تندفع بأعداد كبيرة عبر الكهوف وتقفز فوق سطح الماء فتطلق من أفواهها رشات من السائل الذهبي. وبلغت أخبار هذه البحيرة القصر الإمبراطوري. لقد تأثر أحد موظفي البلاط، الذي وصل إلى شانغدونغ ليعد وصفا لتلك الأسماك، بما شاهده فألقى بنفسه في البحيرة وتلاشى. وصل مبعوث آخر إلى المكان بيد أنه وجد البحيرة قد جفت وخشية العودة إلى المدينة المحرمة   بهذه الأنباء، جند عشرة آلاف مزارع للتنقيب داخل الجبل عن تلك الأسماك، وعثروا على ذهب لينغلونغ. كان الصينيون ينقبون عن الذهب نحو العام 1300 قبل الميلاد. لقد اتبعوا طرائق منهجية في أعمال التنقيب.

خامساً :

 وكتب أحد الموظفين في القرن السابع: «إذا كانت طبقة التربة العليا تحتوي على الزنجفر (كبريتيد الزئبقيك) Cinnabar، فلا بد أن الطبقة السفلي تحتوي على الذهب». وقد اكتشفوا أيضا أن النباتات يمكن أن تقدم دليلا على وجود المعادن الثمينة. فإذا كانت نباتات كراث الربيع تنمو في الجبل فستكون قمة فضة تحت الأرض وإذا ظهر الكراث (...) في الجبل، فثمة الذهب".

 

 ربما أصابوا عين الحقيقة فالنباتات تمتص المعادن من التربة. إذ وجد الباحثون في جامعة لندن في العام 1980، أن النباتات تستطيع امتصاص الذهب وتخزينه. أنسجتها". وتصف مقالة نشرت في العام 1998 في مجلة «نيتشر» Nature إحدى التجارب التي امتصت فيها النباتات الذهب من الفلز الملوث، وفي العام 2004 طور باحث نيوزيلندي نظام المعالجة النباتية   وبموجبه تنتزع النباتات.