ذهب الظل - الجزء الخامس

 

أولاً : 

إن المهووسين بالذهب هم بالتعريف أشخاص متعصبون - وهم يعتقدون أن الذهب هو النقد الحقيقي، ولا شيء سواه، وأعلم أن مانك لا يعتنق هذه النظرية، لكنني أعتقد أنه لا يجد غضاضة في بيع الذهب لمن يعتنقها. أما وجهة نظره فكانت أن أعدادا جديدة من الساعين إلى شراء الذهب قد ظهرت مع ارتفاع من الثروات المحدثة. ويستأنف قائلا: «هؤلاء الناس الذين أتحدث إليهم يُقبلون على الشراء لأنهم يطلبون وسائل الحماية للحفاظ على نسبة من أصولهم، ويعتقدون أن الذهب يؤدي ذلك الغرض، وهم يعتقدون أن النظام المالي لن يتغير إلا إذا وقعت الكارثة. أو ثورة عارمة (كالثورة الفرنسية)، أو اندلعت الحرب، أو خفضت قيمة العملة إلى درجة أن تتخلف حكومة الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها عندها لن يقدم أولئك الذين كانوا يكنزون الذهب على البيع». بيد أنهم كانوا في الواقع يبيعون الذهب. فقد ذكر مدير تنفيذي في شركة ستونهيغ Stonehage مقيم في زيورخ وتقدم شركته المشورة في مجال إدارة الثروات، لوكالة رويترز قبل أيام قلائل أن بعض العملاء الأثرياء جمعوا المكاسب التي حققوها على امتداد عشر سنوات من الموجة الصعودية السعر الذهب ووظفوها في مجال يعتقدون أنه قبلة الاستثمار الرابح في المستقبل: الأعمال الفنية الراقية.

ثانياً :

 وقد اشتملت هذه النقلة على كميات هائلة من الذهب، لأن بعض العملاء استثمروا 15 في المائة من أصولهم في سبائك الذهب. إن الأموال التي حولت إلى ذهب في هذه الخطوة الاستباقية كانت أيضا تتحول عن الذهب في خطوة استباقية أيضا، لا بل في الرمق الأخير. لقد هبط سعر الذهب في اليوم الذي أعقب حديثي مانك. وانخفض في غضون ثلاثة أسابيع بمقدار 300 دولار.


 ثالثاً :

كان من بين الذين خسروا من جراء انخفاض سعر الذهب جون بولسون ohn Paulson أبرز نجوم عالم صناديق التحوط Hedge Funds. لقد كسب بولسون مبالغ خيالية من الذهب. وقد حقق في العام 2010 بجهوده الشخصية مکاسب قدرها 4.9 مليار دولار من استثماراته في الذهب. وخلصت صحيفة نيويورك تايمز New York Times عبر حسابات أجرتها إلى أن عوائده تعادل ضعفي الأجور الإجمالية للاعبي دوري الدرجة الأولى لكرة القاعدة (البيسبول) . وهو يعيش في عزبة مشيدة من الحجر الجيري مساحتها 28500 قدم مربعة في الجانب الشرقي العلوي من مانهاتن. وقد استثمر بولسون معظم عوائده من الذهب في منتج استثماري خاص يقوم على تخصيص الحصص في ملكية الذهب، وقد طرحت شركته هذا المنتج للبيع. لم تكن الحصص تمثل ملكية سبائك ذهبية، وإنما كانت مرتبطة بأصول قائمة على الذهب مثل أسهم شركات التنقيب عن الذهب. كان لبولسون لمسة ميداس Midas Touch التي يستحيل بها كل شيء يلمسه ذهبا)، إلى أن فقدها. فقد بدأت حظوظه تتبدل مع انهيار استثمار قيمته 834 مليون دولار في شركة سينو - فوریست کورپوریشن Sino-Forest Corporation وهي شركة صينية تعمل في إنتاج الأخشاب ، وتتخذ من تورنتو مقرا لها، ولديها إقطاعات من الأراضي في إقليم يونان Yunnan الصيني. وبدأ بشراء الأسهم فيها منذ العام 2008، وبحلول العام 2011 صار مالكا لحصة الأغلبية. وفي يونيو من ذلك العام وجهت شركة تعمل في مجال البيع على المكشوف  واسمها مادي ووترز Muddy Waters اتهاما الشركة سينو - فوريست بممارسة عمليات تضخيم السعر وإطراح الأسهم Pump and Dump بصورتها التقليدية، وهي عمليات يقوم بها مالكو الأسهم باستخدام معلومات مغلوطة لتضخيم قيمتها - عملية تضخيم السعر Pump - ومن ثم بيعها عند ارتفاع أسعارها - عملية إطراح الأسهم Dump وقد ادعت شركة مادي ووترز أن سينو - فوريست قد بالغت في تقدير احتياطياتها من الأخشاب بمبلغ 900 مليون دولار، وعملت وفق خطة احتيالية طوال عشرين عاما، وانهارت أسهم الشركة وخسر بولسون نصف مليار دولار. كما خسر أجد أكبر صناديقه الاستثمارية 47 في المائة من قيمته حدث ذلك حينما بدأ الذهب رحلة الهبوط الحاد وخسر صندوق الذهب الذي يملكه بولسون 16 في المائة من قيمته في شهر واحد.

رابعاً :

 وأورد أحد التقارير الصحافية أن بولسون استشاط غضبا بسبب التسريب المستمر لأنباء خسائره بحيث فرض قيودا مشددة على سياساته الإعلامية، مما صعب على وسائل الإعلام الحصول على المعلومات كانت التقارير المتاحة للعموم حول تعاملاته في الذهب هي نماذج الإفصاح المطلوب من المستثمرين المؤسسيين 137 التي تفرضها هيئة الأوراق المالية والبورصة SEC بصورة الزامية. وقد أظهرت هذه النماذج أن بولسون بدأ يتخلص من الذهب الذي بحوزته. فقد باع ثلث استثمارات شركته في صندوق سبايدر لقاء مبلغ 1.4 مليار دولار. ووفقا لمصدر لم يفصح عنه منسوب إلى وكالة رويترز ، لم يكن تحول بولسون عن صندوق سبايدر يمثل تحولا عن الذهب نفسه، وإنما كان تحولا نحو ضروب أخرى من الأصول لم يكن يشترط الإبلاغ عنها في نماذج الإفصاح العام، ومثالها المبادلات المؤقتة Swaps والعقود الآجلة Forward Contracts والذهب بحالته المادية الملموسة. كان يخفي ما لديه من الذهب عن الأنظار. (209 إن مخزن الذهب هو مكان إخفائه ويعرف قاموس أكسفورد   كلمة خبيثة» (مال) مكنوز بالمعنى نفسه، أي ما يُخفى أو يُرفع جانبا للاستخدام المستقبلي ؟ لكن السؤال المطروح: يُرفع جانبا للاستخدام المستقبلي مقابل ماذا؟ إن الذهب ملاذ آمن مشكوك فيه ) . إذ مع تراجع السعر في شهر سبتمبر المذكور، عزا أحد الصحافيين الماليين هبوط السعر إلى تفضيل المستثمرين للأسهم لأن سوق الأسهم كان في طور الصعود تجاوبا مع ما ورد من أنباء سارة حول أزمة ديون اليونان وبعد ثلاثة أسابيع، عادت أزمة الديون إلى حالتها الاعتيادية الباعثة على اليأس، وهبطت أسعار الأسهم، وهبط معها سعر الذهب. بيد أن المراسل الصحافي أشار هذه المرة إلى أن السوق الهبوطي جر معه معدن الذهب أيضا. وهكذا فإن ارتفاع السوق ينعكس سلبا على الذهب، كما أن انخفاضه ينعكس سلبا على الذهب أيضا.

خامساً :

ما مصدر قيمة الذهب؟ إن من يقبل على شرائه يمارس شعائر قديمة تجعل من المتعذر علينا فصل الذهب عن كينونتنا وهذه هي معضلة (محيرة) علماء الآثار: إننا متداخلون مع ذلك الشيء الذي نحاول فهمه. في دراسة الثابت الذهبي The Golden Constant وهي دراسة كلاسيكية سعت إلى تتبع القوة الشرائية للذهب عبر التاريخ يعترف عالم الاقتصاد روي جاسترام Roy Jastram بوجود إحساس ملح بوجود شيء يتجاوز التفكير الواعي وهو ليس بالغريزة، وإنما قد يكون ذاكرة باطنة موروثة»، وهذا ما يفسر سبب ارتباطنا بالذهب. تشتمل استخدامات الذهب التي عددتها شركة باريك Barrick على موقعها الإلكتروني على أدوات مثل ميزان الحرارة الطبي الذي يستطيع التقاط أدق التغيرات في حرارة المريض. صحيح أن الذهب يدخل في صناعة ميزان الحرارة الجيد، غير أن قيمته الاستعمالية لا تستمد من قدرته على قياس التغيرات التي تطرأ على جسم المريض، بل من قدرته على قياس التغيرات التي تطرأ على الجنس البشري.