سيد الرجال - الجزء الخامس

 

أولاً : 

هيمن معيار الذهب على حقبة اتسمت بالتوسع الاقتصادي. وتجسدت فائدته للعالم الصناعي والتجاري في الثقة التي أفشاها في عملات الدول بعضها ببعض. لقد أوجد هذا النظام حلا لمشكلتين بارزتين  . أولا، أنه أزال حالة عدم التأكد بشأن تقلبات قيمة العملة. فمع تحديد قيمة العملة بالذهب، كان حملة العملة قادرين على ترشيد قراراتهم المستقبلية، بناء على معرفتهم بما ستكون عليه قيمة العملة في أي لحظة. إذ إن حامل السندات المصدرة بالدولار والتي تستحق السداد بعد عشرين عاما على سبيل المثال كان يعلم ما ستكون عليه قيمة السندات لأنها كانت مقومة بالذهب. ثانيا، كان معيار الذهب يملي على المصارف المركزية ما يتعين عليها فعله بأدوات الرفع النقدي مثل سعر الفائدة. فإذا كان سعر الفائدة الذي يحدده المصرف المركزي متدنيا، سيتدفق النقد إلى الاقتصاد حيث يفيد المقترضون من التسهيلات الائتمانية الميسرة. وبالتالي تحفز الأموال الجديدة الاقتصاد الذي شهد انخفاضا في سعر الفائدة. لكن متى كان المحفز صائبا ومتى كان مفرطا أو مبالغا فيه؟ كان يمكن للمصرف المركزي في ضوء معيار الذهب أن يتبين أوقات ارتفاع الأسعار بشدة في اقتصاد خاضع لسياسات التحفيز لأن ارتفاع الأسعار كان يوحي بأن الذهب أرخص ثمنا. وبملاحظة ذلك، كان حملة الدولار يشرعون بتحويله إلى ذهب، للإفادة من صفقة رابحة. وهكذا غادر الذهب الخزانة وتدفق النقد الورقي إليها.


ثانياً :

 ولكن وفقا لمعيار الذهب كان يجب أن تحقق العلاقة بين كمية الذهب وكمية الدولار نسبة محددة، وإلا فلن يكون قمة ذهب كاف لدعم الدولار. ولوقف تدفق العملة الورقية وهجرة الذهب عمل المصرف المركزي على رفع سعر الفائدة.

وبذلك، وعلى نحو مفاجئ، صار ممكنا تحقيق مكاسب من خلال إبدال الذهب بالدولار، واستثمار الدولار في الاقتصاد. وهكذا عاد الذهب إلى التدفق إلى الخزانة. وبعودة الأمور إلى نصابها في الخزانة، استطاع المصرف المركزي أن يخفف قبضته على الفائدة، وهذا ما كان سعر يحرك دعاة العودة إلى معيار الذهب الوصف الشاعري الأثير لهذا الواقع النقدي، وهم إما يتناسون أو يعتقدون أن على الغير تقبل المآسي الماثلة وراء كواليس هذا المشهد. أما أولئك الذين يخالفونهم الرأي فيعتبرون الذهب أداة سيئة لا تصلح لأغراض السياسة النقدية في يومنا الحالي، في وقت يتوافر لأرباب التخطيط الاقتصادي طيف واسع من البيانات مثل مؤشر أسعار الاستهلاك، يمكن استخدامها في تقييم أداء العملة. وإزاء هذه الأدوات الأكثر تطورا لا يُعتبر الذهب مؤشرا يعول عليه. وثمة أسباب أخرى تحمل الاقتصاديين على الاعتقاد أن زمن الذهب ولى إلى غير رجعة، ففي ضوء اقتصاد نام على سبيل المثال، يجب أن تغطي العملة المدعمة بالذهب عددا متناميا أيضا من المعاملات والصفقات ولا يتحقق ذلك إلا بانخفاض الأسعار، أي بحدوث الانكماش   ، وهذا يؤدي إلى خسارة الوظائف. وقد كتب باري إيتشينجرين في هذا السياق  : «في ضوء معیار ذهب فعال، لا يؤدي [الاحتياطي الفدرالي]    إلا دورا محدودا كملاذ إقراض أخير للنظام المصرفي والمالي. ستخفق إجراءات ضخ السيولة التي اعتمدها للحيلولة دون انهيار النظام المالي في خريف العام 2008، لأنها لن توفر مصدرا إضافيا للائتمان إلا إذا أمكن الحصول على المزيد من الذهب وبالنظر إلى هشاشة المصارف والأسواق المالية سيمثل ذلك طريقا محتوما نحو الكارثة. يُعتبر معيار الذهب، وفقا لمؤيديه، الضمان للاستقرار المالي، غير أنه خلاف ذلك في الواقع العملي». أعلنت نهاية معيار الذهب مباشرة على أثير التلفاز في إحدى ليالي الأحد في واشنطن، وكانت التهمة الموجهة إليه أنه السبب وراء شلل الحكومة التي عهد إليها بتطبيقه، أي حكومة الولايات المتحدة. كانت الظروف التي أفضت إلى تقويض نظام الذهب مشابهة، على نحو ما لتلك التي شهدها العقد الأخير من القرن التاسع عشر - ضعف أداء میزان مدفوعات الولايات المتحدة، وتسرب كميات كبيرة من سبائك الذهب خارج الخزانة.


ثالثاً : 

 ومع ذلك، وفي السنوات الفاصلة بين التاريخين تغيرت أحوال الولايات المتحدة بصورة لا تصدق. فقد باتت أقوى اقتصادات العالم. وبعد خمس سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية كان ثلثا احتياطي الذهب النقدي في العالم بحوزة الحكومة الأمريكية. كان لديها 20 ألف طن من سبائك الذهب في خزائنها العميقة)، مثل تلك الموجودة في فورت نوكس   Fort Knox في كينتاكي. فلماذا يحيد الأمريكيون وهم يمتلكون هذا الكم الهائل من الذهب، القوة المتجسدة بهذا المعدن.


رابعاً : انقلاب كامب ديفيد

وفر احتياطي الذهب الضخم لدى لقد وجهت سكرتير الخزانة   لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الدولار من المضاربين. ریتشارد نیکسون، في خطابه إلى الأمة، 15 أغسطس 1971 كما الحال مع قصص القتل ذات الحبكة المتقنة، يتعين علينا أن نعد المسرح لعرض آخر أيام الذهب في صلب الحياة النقدية. وسنستهل القصة حيث وقعت الكثير من جرائم القتل من الدرجة الأولى - إنها لندن زمن الكساد العظيم. كان الذهب يتدفق خارج مصرف إنجلترا الولايات المتحدة - التي حافظت علي مع سحب الأجانب، غير المتفائلين بالأوضاع مستوياته طوال فترة الحرب العالمية الثانية الاقتصادية المستقبلية لبريطانيا، أموالهم ، والفرار. كانت الأحوال في غاية السوء إلى درجة أن الملك جورج الخامس خفض مستحقاته بمبلغ 50 ألف جنيه إسترليني. ولدى تقليص الحكومة تعويضات الأسطول البحري نفذ البحارة في إحدى القواعد البحرية باسكتلندا إضرابا عن العمل. لقد حملت كلمة «تمرد» في طياتها، بالنسبة إلى المودعين الأجانب، رائحة ثورة مقبلة. وتسربت أربعون مليون جنيه إسترليني ذهبي من المصرف المركزي في غضون أسبوع. والتمس مصرف إنجلترا من الحكومة السماح له بوقف تحويل الأوراق النقدية (بنكنوت) إلى ذهب. وأقر البرلمان التشريعات اللازمة. وهكذا خرجت بريطانيا من معيار الذهب )  , وفي غضون أيام، سارت سبع وأربعون دولة على خطاها. وبعد انقضاء عام تتفشى لم يتبق إلا خمس دول تعتمد معيار الذهب فرنسا وسويسرا وهولندا وبلجيكا والولايات المتحدة. ومع انتشار حالة الهلع بدأت موجة استرداد الذهب   في النظام النقدي. وفي يوم واحد استرد مصرف بلجيكا المركزي 106 ملايين دولار ذهبا من الخزانة الأمريكية، وكذلك فعلت فرنسا فاستردت 50 مليون دولار. وبعد بضعة أسابيع عاد الفرنسيون للمطالبة باسترداد 70 مليون دولار أيضا. وحذر الرئيس هربرت هوفر Herbert Hoover من أن الذهب يندفع بلا انتظام  . من دولة إلى أخرى، سعيا إلى أفضل الملاذات الآمنة مثل مدفع منصوب على منصة العالم، وقد انفلت من عقاله في حماة العاصفة». كان الرجل الذي سيوقف نزيف احتياطيات (أمريكا قد حقق فوزا ساحقا على هوفر Hoover في انتخابات نوفمبر .1932. وكما جرت العادة في تلك الأيام لم يكن المنتصر فرانكلين روزفلت لينصب رئيسا إلا في شهر مارس اللاحق للانتخابات الرئاسية. وفي ضوء الفراغ السياسي الذي يتحول فيه الرئيس إلى بطة عرجاء  )، قد تقع أحداث كثيرة، وقد وقعت فعلا. 


خامساً : 

كان المدفع الذي تحدث عنه فرانكلين يواصل ضرباته الماحقة حول المنصة. ومع زلة لسان أحد المرشحين للانضمام إلى حكومة ،روزفلت من أنه قد يكون من الحكمة التخلي عن معيار الذهب، تلقي الدولار ضربة أدت إلى استنزاف 320 مليون دولار ذهبا من الخزانة في أقل من شهرين الأسوأ من ذلك أن بعض أولئك الذين سحبوا أموالهم وهربوا بعيدا كانوا أمريكيين. ولأنهم عدموا الثقة في روزفلت الذي رفض الإفصاح عن خططه ونياته فقد حولوا ما بحوزتهم من العملة الأمريكية إلى ذهب. لكن ذلك لن يفيدهم في شيء. تسلم روزفلت منصبه في 4 مارس 1933، وفي 9 مارس دفع بإصدار قانون الطوارئ المصرفي الذي أعطى الرئيس صلاحية تنظيم ملكية الذهب  . وفي 5 أبريل صدّق الأمر التنفيذي الرقم 6102 القاضي بتحريم اكتناز النقد الذهبي، والسبائك الذهبية، وشهادات الذهب داخل الولايات المتحدة القارية  ) . وقد جرّم الأمر التنفيذي امتلاك الذهب سواء من قبل الأفراد أو الشركات التضامنية Partnerships أو الاتحادات أو شركات المساهمة. وأعفى القانون «الاستخدامات الاعتيادية مثل حشوات الأسنان الذهبية والعملات النادرة في حيازة جامعي العملات وما سوى ذلك، كان الذهب ملكا للحكومة، وكان يتعين على من يملك الذهب تسليمه للسلطات في موعد أقصاه 1 مايو، وذلك بعد خمسة وعشرين يوما من توقيع الأمر التنفيذي، مقابل السعر الحكومي الرسمي 20.67 دولار للأوقية. وعلى الفور اعترض على هذا القانون محام اسمه فريدريك باربر كامبيل Frederick Barber Campbell)، يبلغ عمره ستة وسبعين عاما. كان من نيويورك، وكان متخصصا في قضايا التأمين. وقد توجه إلى مصرف تشيس ناشيونال Chase National Bank وطلب الحصول على سبائكه الذهبية المودعة لدى المصرف، وكان عددها سبعا وعشرين سبيكة، وبلغت قيمتها 200 ألف دولار وكان ذلك مبلغا كبيرا. ووفقا للأمر الرئاسي رفض المصرف إعادة الذهب.